تداولت وسائل الإعلام لمدة يومين خبر انتحار لاجئ فلسطيني من سورية إلى لبنان في مخيم عين الحلوة بجنوب لبنان منتصف الشهر الأول من العام الحالي. المنتحر في أواخر الثلاثينات، أب لثلاث بنات، أكبرهن لم تتجاوز العاشرة. ليومين انشغل الرأي العام بالخبر"الصغير"، وتدفّق الناس والمهتمون إلى منزل المنتحر المستأجر للوقوف على ظروف موت رب الأسرة"المسكين"، كما أصدرت مؤسسات حقوق الإنسان بيانات الإدانة، وكالعادة اتهمت واستنكرت ودافعت وطالبت... وبدأ الناس بتناقل الحكايات والأخبار بما فيها من تفخيم وتضخيم. ذكر أحدهم أن خبر إصابة والدته نتيجة أحد التفجيرات في مخيم اليرموك كان"القشة التي قصمت ظهر البعير"، وأكد آخر أن الأوضاع المادية السيئة وشعوره بالإحراج المتواصل عند الانتظار على أبواب المؤسسات للحصول على حصة تموين من هنا أو هناك كانت سبباً رئيساً لانتحاره، وغيرها من الأقاويل والأحاديث والتكهنات، بينما بقيت الزوجة رهينة المفاجأة، صامتة غير مصدّقة ما يجري من حولها. بعد أن غادر الجمع في الليلة الثانية للمأساة، بقيت الأم وصغيراتها وحيدات يستذكرن يومياتهن الخوالي في سورية وأصدقاءهن وجيرانهن والمدرسة والحي، والأسرّة الجديدة التي اشتراها رب العائلة قبل عامين، كذلك الألعاب والثياب والحديقة العامة، والاحتفالات السنوية بأعياد ميلادهن في المنزل الصغير الذي سوّي بالأرض نتيجة الصراعات الدائرة بلا توقف. نامت الصغيرات تلك الليلة، وبقيت الأم مستيقظة تفكر في آخر يوم من حياة شريك حياتها. في ذلك اليوم، صرفا آخر فلس من نقودهما التي ادّخراها خلال سنوات. في ذلك اليوم، عاد خائباً مرة أخرى بعد فشله في إيجاد فرصة عمل. في ذلك اليوم، طرق صاحب المنزل باب البيت أكثر من مرة مطالباً بالإيجار. في ذلك اليوم، أوقف على حاجز الجيش عند مدخل المخيم بعد أن نسي بطاقة الهوية في البيت، فهو غير معتاد على حملها. في ذلك اليوم، بكى أكثر بسبب عدم القدرة على تلبية طلبات بناته المتواضعة كالعادة. في ذلك اليوم أسرّ لها أنه غدا يكره الصباح، ولو أمكنه لن يستيقظ مرة أخرى...