اليوم تذكرت الحياة. تذكرت أني حين ركضت خلف الحياة تركت الحياة خلفي. شعرت برهاب كبير. أخفيه ولكنه يتسرّب من جوارحي. رأيت أحدهم يضحك فعجبت. رأيته يشعر بالبهجة فغبطته. لم أغبطه. كأنه عندي كان يفتعل السعادة. تساءلت كيف يشعر من يكون على ما يرام. كان يحاول أن يجذبني إلى حديثه ولكن كان يذعرني الحديث إليه. كنت أخشى أن يحدّق فيّ. كانت هواجسي تتشاجر. كنت أحاذر أن يسمعني. كنت أخاف أن أقترب منه أو يقترب مني. ارتعبت... لا أكف عن الخواطر ولا تكف عني. يأخذني ما قَرب منها وما بعد. تذكرت أنني تنقصني المهارات... تذكرت أنني تعتريني رغبة شديدة بالهرب، ولكنني كنت أظهر خلاف ذلك. الهرب من أين؟ إلى أين؟ مما مضى إلى ما سيأتي أو مما سيأتي إلى ما مضى. من هناك إلى هنا. الهرب من أي شيء إلى أي شيء. تذكرت عجزي وسآمتي. تذكرت حياتي الأولى. تذكرت الأباريق يحملها الضيوف إلى العراء... تذكرت بئر عمتي نخضخض فيها الدلاء فتأتي ملأى بالضفادع والماء العكر. تذكرت المغرفة الكبيرة ذات الثقوب. تذكرت ثريد البامياء. تذكرت المنخل والغرابيل. تذكرت الطير يترصد بها عباس في البيادر. أعجزه صيد الزرازير فمال إلى الفاختة. أتذكّر الحياة وأرتجف. أرتشف قهوة مزاجها كافيين ثخين. كأنني أتبدد. أريد قدحاً يحويني. أمضي ساعات النهار منهمكاً أرفع الحجارة من الشق الأسفل في الجبل، حجارة أقطعها وأنحتها وأحملها على عاتقي. أضعها على مصطبة قرب منحدر سحيق. أدقّها وأصقلها ثم أحملها وأضعها في الجانب الأيسر من الجبل. الطريق من المقلع إلى المِدَقّة أخدود مرصوف بجلامد غليظة تقطع حوافر البغال ويحف به عوسج نضير. أحدق بين الفينة والأخرى في وجهي تعكسه شفرة الفأس. جبيني فاحم وفي بنصري خاتم بشذرة خضراء تشتد خضرتها في العتمة والغسق. تهب ريح فينهض غبار مثل أجنحة الجراد يغشى البصر. أطرق وأسدر. أهيَ عين تعشى أم أفق يضيق؟ كلما هويت بالفأس على صَخْرة، قدحتْ وصوتتْ و تطايرت الكُسارة في الهواء. يرتطم الصوت في شعاف الجبل ويتردد بينها. تضاعف وعورة المكان شدة الصدى. أتلفت فأرى حياة الكائنات كما هي. الهندباء البهية تسطعُ صَفْرتها وسيقان البقلة الحمقاء محمرة مزرقّة مثل أوردة الدوالي. الخزامى بهيجة تتفتّح بين أحجار الكلس، ووراء العوسج تنبت شجرة خشناء لا أعرفها لها أوراق تنمو مثل الكلاليب، تتدلى منها ثمار تشبه الأصابع المحنّأة. هنالك وروار أزرق الخدّ يجثم على غصن قَيْقَب يرقب حركة الحشرات على السفح وقندس له شفة بعير وأخمص إنسان باسط ذيله المسطح بين البردي في قاع فيه حصى كأنه خرز ملون. لم أعلم أن البردي ينبت في هذا الصقع. لم أره البتّة من قبل. وهنالك جُعَلٌ منهمك لا يرى خيراً إلا في قرموطة. غزال يمشي إلى العين بحذر، لم الحذر؟ لا قَيّوط ولا صيّاد هنا. كم راعتني فكرة أن الحياة تبدو كما هي. تداعَتْ الحجارة التي رصرصتها قرب المِدَقّة فهرعت إليها. كلما آلمتني فقرات ظهري تذكرت سنواتي الأولى. كان لدينا رهط من الحمير الكسالى وثلاث بقرات صُفر وثور سامريّ مجنح أمْلَح، وخمسون نعجة يرأسهن كبش كثير النكاح. وكان لدينا بعض الدجاج ينقر عناقيد الحصرم فيغضب كسّاب وهو من أصحاب الكتاب ويهشّ الطير بالحجارة. وكان لدينا حصان محزون يسبّح في الليل ويعلف وريقات البرسيم والحصى. وكان بجوارنا ثلاثة بيوت وعلى مرآى منا عشرون بيتاً وكان البدو في البيد والطنطل في الفيافي. كنا ننحر الأضاحي في الأعياد وكنا.......وكنا. كلما تذكرت سنواتي الأولى تذكرت عَيّي وعجزي. كانت هذه دارنا الأولى فأين هي الأخرى؟ كنت يافعاً أحلم بالنمو كي تتضح ملامح الأشياء. كانت الحياة بيدي أو هكذا بدا لي. كنت أطير من غصن إلى غصن. تطير بي الذكريات ويُرجعني صوت رحى الحجر في الشعب المجاور. ما إن أفرغ من صخرة حتى أقتلع صخرة أخرى. تذكرت الحمار يحبق أحياناً لشدة وطأة الجوالق. أغني أغنية طالما غنيتها: أنا فتحت المدن! / أنا عرفت الشمال! / أنا جبت الأرض، جئت من مشرقها! / كنت في نينوى! / سبحت في شط دجلة! / كنت أُعَدُّ من الأجانب! / رأيت الغجر في حمام العليل، / وددت أن أكون منهم / أجترح الكبائر! حين أعود في المساء أتناول حساء الحندقوق وعصيد الشيْلم. وما إن أضطجع على السرير حتى يتفاقم التفكر بالغيوب... أيها الشيء وهمك حاضر يطيف بي وعلمك غائب. أيها الشيء كلما تدبّرتك، بدوت أكثر توحّشاً. أيها الشيء أريد أن يكون لي بيت يضمني له جدران وفيه مدفأة وله كوة أحدق منها إلى الكون. أجلس فيه وأسترخي من عناء العمل في المساء. حياتي خداع وتأجيل. صور رسمتها لنفسي في الصغر. كبرت الآن وشابت ذؤابتي. لم تكبر تلك الصور ولم تتغير. كل شيء يسير صوب الاكتمال غير أنني أقف هنا منذ زمن بعيد. أترجرج متى جئت إلى هنا. يا خير! خذني إلى يمينك، أنا سئمت الشمال! يا خير! خذني! خذني إلى الذكرى! يا خير! أنا تَمزّقْتْ! خِطْني! نمتُ. في السّحَر تراكمت غيوم كثيرة. أدهشني البرق المتكسر في حواجب السحاب. هنالك طائر أسود يجثم على شجرة عُلّيق أزرق نبتت قرب الشباك. لم يكن عقعقاً أو غراباً. كانت الريح موحشة. قأقأ هنيهة في الظلمات وغفا. ارتعدت غصون العُلّيق وهطل وابل غزير ابتلتْ مِنه خوافيه. قفزَ على جلمدة ملساء. طار وجثم على غصن شجرة. بعد أن توقف المطر نسل ريشه وتفقّد مخالبه. أنام وتوقظني جلجلة الرَحَى المدوية في الشِّعاب، أنهض وأعود إلى الحياة تتخطفني الهواجس. أقتلع صخرة وأدحْرج أخرى. * كاتب عراقي يعيش في الولايات المتحدة