يفتح تفجير معبر"جيلفا غوزو"التركي، المقابل لمعبر باب الهوى السوري، الباب مجدداً أمام مدى تأثر تركيا بالوضع السوري، حيث ذهبت الصحافة التركية المقربة من حزب"العدالة والتنمية"، الحاكم، إلى اتهام النظام السوري بالوقوف وراء العملية الإرهابية، واعتبرته نظاماً مشهوداً له بتفجير الأوضاع في دول الجوار، وعاملاً من عوامل عدم الاستقرار في المنطقة، وربطت التفجير بالتهديد الذي أطلقه وزير إعلام النظام ضد تركيا قبل يومين من وقوعه. وبعض الكتاب والأكاديميين الأتراك والمتابعين للشأن السوري اعتبر أن النظام السوري يقف، كذلك، وراء التفجير الانتحاري الأخير، الذي أصاب مقر حراسة السفارة الأميركية في أنقرة، بالنظر إلى وجود بعض عناصر المنظمة اليسارية المتطرفة، المتهمة بالوقوف وراء التفجير، في العاصمة السورية، دمشق. وإذا أضفنا أن قوات النظام السوري سبق أن أسقطت في 22/6/2012 طائرة حربية تركية، قال القادة الاتراك إنها لم تدخل المجال الجوي السوري، إلى جانب القذائف التي تتساقط من حين إلى آخر داخل الأراضي التركية، وأودى بعضها بحياة مواطنين أتراك، ندرك جيداً مدى تجرؤ النظام السوري على تركيا، التي كان يخشاها طوال عقود عديدة، وكانت تشكل مصدر قلق بالنسبة إليه، فكلنا يتذكر موقف النظام الاستسلامي إبان أزمة 1998، التي انتهت بتوقيع"اتفاقية أضنة"المذلة، وتخلى فيها النظام عن احتضان حزب"العمال الكردستاني"، وأبعد عبد الله أوجلان. غير أن الأمور تغيرت كثيراً اليوم، فتركيا هي اللاعب المحوري في الملف السوري، والنظام في الهزيع الأخير من عمره، ويحاول بشتى الوسائل تصدير أزمته وافتعال الأحداث مع الجارة، التي كان يهابها طوال فترة حكمه الاستبدادي لسورية. ولا شك في أن موقف الحكومة التركية من الثورة السورية، يثير العديد من المواقف المؤيدة والرافضة له في داخل تركيا وخارجها، حيث تدعمه الأوساط الشعبية، أوساط حزب"العدالة والتنمية"وجمهور الداعمين له، المتعاطفين مع محنة السوريين ومآسيهم، بل إن منهم من يطالب حكومة رجب طيب أردوغان باتخاذ خطوات أكبر. في المقابل، تنتقد أوساط المعارضة التركية، وبخاصة حزب"الشعب الجمهوري"، سياسات الحكومة حيال الوضع في سورية، وتعتبرها متهورة وتورط تركيا، وتجرها إلى مستنقع خطر. وراح حزب"الشعب الجمهوري"، بوصفه حزب المعارضة الرئيس، يتخذ مواقف تحابي النظام السوري، لكنه ليس الوحيد في ذلك، بل تشاركه في النظرة إلى ما يجري في سورية معظم أحزاب اليسار التركي، بما فيها الحزب"الشيوعي"التركي، وكذلك أحزاب وقوى اليمين المتطرف. إلا أن الواضح، هو أن مواقف أحزاب وقوى المعارضة، القومية والعلمانية، التركية، تدخل من باب النكاية والمناكفة أكثر من كونها مبدئية. وتتعاطف أوساط المثقفين والأكاديميين الأتراك، بشكل عام، مع محنة الشعب السوري وثورته، لكن العديد من الباحثين والأكاديميين يرون أن بلدهم تحمّل مخاطر كبيرة من خلال دعم المعارضة السورية، واحتضان قيادات"الجيش الحر"والمنشقين، ويخشون من تدهور بعض علاقات تركيا الدولية. وهناك من يعتبر منهم أن نقاط الصواب في السياسة التركية إزاء الأزمة السورية، تفوق بأضعاف مضاعفة النقاط الخاطئة فيها، وأن من الأفضل التفكير بمصير المنطقة وإلى أين تتجه. مرجعية المصلحة ويجد الاهتمام التركي بسورية مرجعيته في مصالح واعتبارات اقتصادية واستراتيجية وأمنية وتاريخية، كونها شكلت على الدوام نافذة تركيا على العالم العربي، إذ وبعد طوال جفاء وعداء، توطدت العلاقة بين البلدين، منذ مجيء حزب"العدالة والتنمية"إلى الحكم، وفقاً لنظرية"تصفير المشاكل مع دول الجوار"، التي وضع أسسها وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوعلو. وتطورت طرق وميادين التعاون، وفي شكل حوّل سورية من بلد معادٍ إلى بوابة تركيا العربية، فوقعت معها عام 2004 اتفاقية التجارة الحرة، فضلاً عن عشرات الاتفاقيات الأمنية والاقتصادية والتجارية الأخرى. وبالوقت ذاته، تنامى الدور التركي في منطقة الشرق الأوسط، في شكل أفضى إلى نسج شبكة من العلاقات والنفوذ في دول المشرق العربي، وإلى التوقيع على اتفاقيات اقتصادية وسياسية مهمة معها، حيث أبرمت حكومة حزب"العدالة والتنمية"اتفاقيات ثنائية مع العديد من الدول العربية، وألغت تأشيرات الدخول مع كل من سورية ولبنانوالأردن، وتمكنت من تعزيز التعاون السياسي والاقتصادي مع معظم بلدان المشرق العربي. وشكل كل ذلك نقطة تحول مفصلية في السياسة التركية حيال البلدان العربية. والأهم هو أن تركيا اعتبرت بمثابة الدولة النموذج في المنطقة العربية، المستند إلى علاقات جيدة وإيجابية مع محيطها العربي والإسلامي، إلى جانب نجاحاتها الملحوظة في ميادين التنمية والاقتصاد والديموقراطية وفي علاقة الدين بالدولة. كما اعتبرت تركيا دولة ناجحة في إدارة العلاقات الدولية، نظراً الى مراعاة نظامها ومسؤوليها التوازن الدقيق بين قوة الأمر الواقع، وقوة الحق الأصيل، في ضوء موازين القوى. غير أن الأمر اختلف مع قيام الثورة السورية في 15/3/2010، ومع استمرار النظام في التوغل في أعمال القتل وإقحام الجيش في شوراع وأزقة أحياء المدن والبلدات والقرى السورية، حيث لجأت تركيا إلى ممارسة سياسة مزدوجة، فمن جهة أولى لم تتوقف عن حض القيادة السورية للقيام بالإصلاحات والتغييرات والاستجابة لمطالب المحتجين والمتظاهرين، ومن جهة ثانية، احتضنت مختلف أطراف المعارضة السياسية السورية في الخارج، وسمحت لها بعقد مؤتمراتها، واستقبلت الضباط المنشقين، والمدنيين الهاربين. ولا شك في أن الموقف التركي من الأزمة السورية لا تحكمه المصالح فقط ولا المبادئ، بل أيضاً جملة من الاعتبارات والحسابات والتوازنات الداخلية، وكذلك الضغوط، الداخلية والخارجية، إضافة إلى أن تركيا يهمها مآل الأوضاع في المنطقة، وخصوصاً على حدودها الجنوبية. ومن الطبيعي أن تفيض الأزمة السورية على دول الجوار، فتركيا اعتبرتها - منذ بداية الثورة السورية - أزمة ترتقي إلى مصاف قضية تركية داخلية، بالنظر إلى امتلاكها حدوداً مشتركة على طول أكثر من 850 كيلومتراً، ووجود الأكراد على المناطق الحدودية، وبخاصة مع تمدد مقاتلي حزب"العمال الكردستاني"في الشمال الشرقي من سورية، بمساندة النظام ودعمه. إضافة إلى عوامل التاريخ والجغرافيا والدين والعلاقات الاقتصادية ودور تركيا الإقليمي الصاعد. وعليه، ارتفعت أصوات الساسة الأتراك ضد ممارسات النظام، واستقبلت قوى المعارضة السورية. وتدخل حسابات الربح والخسارة في مواقف الساسة الأتراك، وكذلك في مواقف مختلف الأوساط الاجتماعية في تركيا، حيث أنفقت تركيا، إلى الآن، أكثر من ستمئة مليون دولار على اللاجئين السوريين، الذين يحظون برعاية، رسمية وشعبية، لا يحظون بمثلها في الأردن، حيث وضعهم مزرٍ ولا إنساني. وفي لبنان والعراق لا يختلف وضعهم الصعب عن وضعهم في الأردن كثيراً. وقد تجاوز عدد اللاجئين السوريين في المخيمات التركية المئة وثمانين ألفاً، فضلاً عن دخول أكثر من نصف مليون سوري منذ بداية الثورة إلى الآن، ومنحتهم الحكومة التركية تسهيلات كثيرة، في ما يتصل بحق الإقامة وحق العمل والدراسة والسكن والتملك. وهي أمور لم تمنحها لهم الدول العربية التي لجأوا إليها، على رغم كل ما يقال عن العروبة والإخوة ووحدة الحال. وفي جانب الخسارة، تراجعت الحركة الاقتصادية بشكل ملحوظ في المحافظات التركية الحدودية، فمثلاً، كان حجم صادرات محافظة"غازي عينتاب"إلى سورية لوحدها، يصل قبل الأزمة إلى 150 مليون دولار. إضافة إلى توقف حركة مرور شاحنات وبضائع الترانزيت، حيث كانت 90 في المئة من صادرات تركيا إلى السعودية وقطر ودولة الإمارات والمنطقة تمر عبر سورية. ويضاف أيضاً أغلاق سورية مجالها الجوي أمام الطائرات التركية، التي كانت تعبر مجالها الجوي وما يترتب عن ذلك من كلفة إضافية. اهتمام شعبي ولعل المفاجئ هو حجم الدور الاجتماعي والإغاثي الإنساني التركي، حيث لعبت منظمات تركية غير حكومية، مثل"هيئة حقوق الإنسان والحريات والإغاثة الإنسانية"، و"هيئة الإغاثة الإنسانية"، والهلال الأحمر التركي، ومنظمة"مازلومدر"، وغيرها، أداوراً مهمة في جمع المساعدات وتنظم حملات إنسانية، كان أكبرها حملة"حلّ الشتاء. رغيف خبز وغطاء للسوريين"، التي تحولت إلى حملة دولية. وكانت مدعومة ومنظّمة إلى حدّ كبير من جانب الحكومة التركية. في المقابل، لا يبدو الدور السياسي التركي بالمستوى ذاته، بالنظر إلى جملة اعتبارات دولية وإقليمية. ومع ذلك، وتبقى تركيا صاحبة الكلمة الأقوى بين دول المنطقة في الأزمة السورية، فالحدود التركية - السورية الممتدة والواسعة ما زالت مفتوحة، والقيادة التركية لن تتخلى عن الدور المحوري لتركيا في مجمل ملفات الشرق الأوسط، على رغم أن السياسة التركية تشي بأنها متردّدة أكثر من كونها استباقية في الملف السوري، بالنظر إلى ارتهانها بالقرار الأطلسي، والأميركي تحديداً، وخشيتها على أمنها القومي، وقلقها من إرهاصات أي تحرك لها على صورتها الدولية. ولا يعول الساسة الأتراك كثيراً على الحل السياسي للأزمة السورية، نظراً الى خبرتهم اللصيقة بطبيعة وتركيبة النظام السوري، لكنهم لن يقفوا في وجه أي حل يضمن إنهاء حكم النظام، ورحيل رموزه. قد دعا أحمد داود أوغلو إلى بدء حوار سياسي وفي شكل فوري في سورية، بين المعارضة، ومن وصفهم بالذين لم تتلطخ أيديهم بدماء السوريين، على رغم أن النظام رد على مبادرة رئيس الائتلاف الوطني، أحمد معاذ الخطيب، بمزيد من الهجمات وأعمال القتل. لكن أوغلو، تساءل خلال الاجتماع 71 للجنة البرلمانية التركية - الأوروبية المشتركة، عن دعاة الحوار للانتقال السياسي في سورية. ووجه انتقادات غير مسبوقة للمواقف الأوروبية والدولية، عبر تساؤله عما يجب على المعارضة السورية أن تفعله لتحريك المجتمع الدولي، على رغم تعرضها للظلم والقتل، ولم تزود بأية إمكانيات أو دعم ملموس. ولعل داود أوغلو كان محقاً عندما اعتبر أن مجلس الأمن فقد صدقيته، وعندما جدد تساؤله عن الجهة التي تمثل وجدان وضمير العالم. ولا يمكن إلا أن يتساءل السوريون مع داوود أوغلو عن العدالة والحقوق الدولية وعن وجدان المجتمع الدولي وضميره، بخاصة بعد استشهاد أكثر من 70 ألف سوري، وإقامة الملايين في ظروف شديدة القسوة خلال الشتاء، فإن لم يتدخل المجتمع الدولي الآن، فمتى يتدخل لإنهاء مأساة السوريين؟ ويؤلمنا أن نسأل سؤال داوود أوغلو عن عدم إقامة الاعتبار للدم السوري المراق في كل يوم، ولماذا لم تظهر حركة احتجاجية شعبية أو رسمية واحدة في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، تندد بما يحدث في سورية، وهي التي أشبعتنا بالحديث عن حقوق الإنسان والإدعاء بالديموقراطية الحديثة؟ وهل سيتحرك الضمير العالمي بعد مقتل 700 ألف سوري؟ * كاتب سوري