بعد أن أمكن للأسطول الإسلامي السيطرة على سواحل البحر المتوسط، بدءاً من جزيرة رودوس حتى برقة في شمال أفريقية، جمع قسطنطين بن هرقل أسطولاً كان الروم قد بنوه من قبل بهدف الثأر من خسارتهم أمام المسلمين في البر، وخرج الأسطول الرومي بقطع حربية تعدادها يوازي الألف. ووصلت أخبار هذا الحشد البحري إلى الخليفة عثمان بن عفان، الذي لم ير بدّاً من إعطاء الإذن لصد العدوان. وهكذا، ارسل معاويةُ، الذي كان أميراً لبلاد الشام آنذاك، مراكبَ بقيادة بسر بن أرطأة، واجتمع مع عبد الله بن سعد بن أبي السرح في مراكب مصر، وكانت تحت إمرته، ومجموعها مائتا سفينة فقط، وسار هذا الجيش الإسلامي الذي ضمّ أشجع المجاهدين المسلمين الذين انتصروا من قبل على الروم في معارك عديدة. أما أسباب هذه المعركة فعديدة، منها: 1- الضربات القوية التي وجّهها المسلمون إلى الروم في أفريقية. 2- إصابة الروم في سواحلهم الشرقية والجنوبية، بعد أن سيطر المسلمون بأسطولهم عليها. 3- خشية الروم من أن يقوى أسطول المسلمين فيفكروا في غزو القسطنطينية. 4- إرادة قسطنطين بن هرقل استرداد هيبة ملكه بعد الخسائر المتتالية براً على شواطئه في بلاد الشام وساحل برقة. 5- رغبة الروم في خوض معركة ظنوا أنها مضمونة النتائج كي تبقى لهم السيطرة في المتوسط، فيحافظوا على جزره وينطلقوا منها للإغارة على شواطئ بلاد العرب. 6- محاولة استرجاع الإسكندرية بسبب مكانتها عند الروم، وقد ثبت تاريخياً مكاتبة سكانها لقسطنطين بن هرقل. أما مكان وقوع المعركة، فهو سؤال لم يجد المؤرخون له جواباً موحداً، فالمراجع العربية لم تحدد مكانها، فالطبري في أخبار سنة 31 هجرية، ربط حدوث ذات الصواري بما أصاب المسلمون من الروم في أفريقيا، وقال: «فخرجوا في جمع لم يجتمع للروم مثله قط»، أما ابن الأثير، فلم يذكر في كتابه «الكامل في التاريخ» مكانَ المعركة، لكنه ربط سبب وقوعها بما أحرزه المسلمون من نصر في أفريقيا بالذات. أما الدكتور شوقي أبو خليل، فلقد رجّح أن المعركة كانت على شواطئ الإسكندرية، وذلك للأسباب التالية: ما أورده ابن خلدون حين قال: «ثم بعث ابن أبي السرح السرايا ودوَّخ البلاد فأطاعوا، وعاد إلى مصر، ولما أصاب ابن أبي السرح من أفريقية ما أصاب ورجع إلى مصر، خرج قسطنطين بن هرقل إلى الإسكندرية في ستمائة مركب». عرف عن أسطول الدولة البيزنطية أنه صاحب ماض عريق، فهو كان سيد البحر المتوسط قبل ذات الصواري، وهو أجرأ على مهاجمة السواحل الإسلامية، ولذلك رجح شوقي أبو خليل مجيء الأسطول الرومي إلى شواطئ الإسكندرية لاستعادتها، بسبب مكانتها عند الروم، ومكاتبة أهلها لملكهم السابق، وهو بذلك يقضي على الأسطول الذي شرع العرب في بنائه بمصر، فتبقى للروم السيطرة والسطوة في مياه المتوسط وجزره. كما أنه لا بد من الإشارة إلى أنّ المراجع الأجنبية تعرِّف ذات الصواري ب «موقعة فونيكة»، وفونيكة هو ثغر يقع غرب مدينة الإسكندرية بالقرب من مدينة مرسى مطروح. أما عن أحداث المعركة، فتشير المصادر إلى أنّ الفريقين «بقيا في عرض البحر، وكان موقف المسلمين حرجاً، فقال القائد المسلم لصحبه: أشيروا عليّ، فقالوا: انتظر الليلة بنا لنرتّب أمرنا ونختبر عدونا، فبات المسلمون يصلّون ويدعون الله ويذكرونه، ويتهجدون، فكان لهم دوي كدوي النحل على نغمات تلاطم الأمواج بالمراكب». أما الروم، فباتوا يضربون النواقيس في سفنهم، وأراد قسطنطين أن يسرع في القتال، ولكن لما فرغ عبد الله بن سعد بن أبي السرح من صلاته إماماً للمسلمين في الصبح، استشار رجال الرأي والمشورة عنده، فاتفق معهم على أن يجعلوا المعركة برّيّة على الرغم من أنهم في عرض البحر، فكيف تمّ للمسلمين ذلك؟ أمر عبد الله جنده أن يقتربوا من سفن أعدائهم، فاقتربوا حتى لامست سفنهم سفن العدو، فنزل الفدائيون إلى الماء وربطوا السفن الإسلامية بسفن الروم بحبال متينة، فصارت ألف ومائتا سفينة كقطعة أرض ستجري المعركة عليها. جال عبد الله بن سعد على جنوده يعظهم ويأمرهم بتلاوة القرآن الكريم، خصوصاً سورة الأنفال، لما فيها من معاني الوحدة والثبات والصبر. وبدأ الروم القتال، فهم في رأيهم قد ضمنوا النصر عندما قالوا «بل الماءَ الماءَ الماءَ»، وانقضّوا على سفن المسلمين بدافع الأمل بالنصر، مستهدفين توجيه ضربة أولى حاسمة يحطمون بها شوكة الأسطول الإسلامي. انقضّ الروم على صفوف المسلمين المحاذية لسفنهم، وصار القتال كيفما اتفق، وكان قاسياً على الطرفين، وسالت الدماء غزيرة، وسقطت الجثث في الماء، وضربت الأمواج السفن حتى ألجأتها إلى الساحل، وقُتل من المسلمين الكثير، كما قتل من الروم ما لا يحصى، حتى وصف المؤرخ البيزنطي «ثيوفانس» هذه المعركة بأنها كانت (يرموكَ) ثانياً على الروم، ووصفها الطبري بقوله: «إنّ الدم كان غالباً على الماء في هذه المعركة». حاول الروم أن يغرقوا سفينة القائد عبد الله بن أبي السرح ليبقى جندُ المسلمين دون قائد، فتقدمت من سفينته أخرى رومية وألقت إليها السلاسل لتسحبها وتنفرد بها، لكن «علقمة بن يزيد الغطيفي» أنقذ السفينة والقائد، عندما ألقى بنفسه على السلاسل وقطعها بسيفه، وصمد المسلمون وصبروا كعادتهم، فكتب الله لهم النصر بما صبروا، واندحر ما تبقى من الأسطول الرومي. وكاد الأمير قسطنطين يقع أسيراً في أيدي المسلمين، كما ذكر ابن عبد الحكيم، لكنه لجأ إلى الفرار لمّا رأى قواه تنهار، وجثثَ جنده تطفو على سطح الماء وتلقي بها الأمواج إلى الساحل، وقطعَ أسطوله تغرق قطعة قطعة، ففرّ مدبراً والجراحات في جسمه، وألقت به الريح في جزيرة صقلية، فسأله أهلها عن أمره فأخبرهم، فقالوا: لو دخل المسلمون لم نجد من يردَّهم، فقتلوه وخلُّوا من كان معه في المراكب. أما عن نتاج ذات الصواري، فيمكن التوقف عند النقاط التالية: 1- كانت ذات الصواري أولَ معركة حاسمة في البحر خاضها المسلمون، أظهر فيها الأسطول الفتي الصبر والإيمان، كما عمد المسلمون فيها إلى استخدام خطاطيف طويلة يجرّون فيها صواري سفن الأعداء وأشرعتها، الأمر الذي انتهى بكارثة على الروم. 2- كانت ذات الصواري حدّاً فاصلاً في سياسة الروم إزاء المسلمين، فأدركوا فشل خططهم في استرداد هيبتهم أو استرجاع مصر أو الشام، وأصبح البحر المتوسط بحراً إسلامياً صافياً بعد أن كان بحيرة رومية، واستطاع المسلمون فتح قبرص وكريت وكورسيكا وسردينيا وصقلية وجزر البليار، ووصلوا إلى جنوة ومرسيليا. 3- قتل قسطنطين فتولى ابنه الرابع من بعده، وكان حدثاً صغير السن، ما جعل الظروف مواتية لقيام حملة بحرية وبرية إسلامية تستهدف العاصمة روما. 4- انكب المسلمون على دراسة علوم البحر وصناعة السفن وكيفية تسليحها وأسلوب القتال عليها وعلوم الفلك المتصلة بتسييرها في البحار ومعرفة مواقفها على المصورات البحرية المختلفة، فعرفوا الإسطرلاب والبوصلة الفلكية وطوروها إلى المدى الذي استفاد منه بعد ذلك البحارة الغربيون أمثال: كريستوف كولومبوس، وأميريكو فاسبوتشي في اكتشافاتهما. كما لا بدّ من الإشارة إلى أنّ نجاح المسلمين في هذه المعركة يعود إلى قائدهم عبد الله بن سعد بن أبي السرح وما اتصف به من رباطة جأش ومقدرة فائقة في إدارة الحروب.