ليس بعيداً من ديار بكر -"آمَدْ، عاصمة أكراد تركيا، حيث أطلق الزعيمان، الكرديّ العراقيّ مسعود البرزاني والتركيّ رجب طيب أردوغان، منذ أسابيع قليلة نداء جديداً للسلام يُؤمَل منه وضع حدّ للنزاع الكرديّ التركيّ، نصبتْ تركيا"المسالمة"على حدودها الجنوبية أسلاكاً شائكة قرب معبر نصيبين ? قامشلو، لتكمل بذلك عملية بناء جدار تريده فاصلاً أكرادَ سورية عن أكراد تركيا! وإنْ كان يُفهَم من معنى الزيارة الرمزيّ وتوقيتها، وهي من دون شك نقطة تحول هامّة ومرحّب بها، اعترافٌ علنيٌّ ورسميّ، تأخّر طويلاً، بأحقية المطالب الكرديّة القومية، إلا أنها في الوقت نفسه تبعث على الريبة إنْ لم تعقبها خطوات فعليّة وحاسمة ترضخ معها تركيا"الدولة"، لا حكومة رجب طيب أردوغان وحسب، للحقوق الكرديّة المؤجلة، لئلا تفصل بذلك خطابها الجماهيري، ذا الدواعي الانتخابية الموقتة، عن سلوكها المضطرب وتحولاته الدراماتيكية. ذلك أن المسافة"السيادية"التركية-السورية ذات المساحة الشاسعة، حيث تكثر المياه العذبة والسهول الخصبة ومنابع النفط والغاز، من دون أن ننسى أن تلك السيادة - المساحة عربية تركية معاً قد فُرضت قسراً، واقتلعت مئات الآلاف من الأكراد من بيوتهم واستباحت أملاكهم، تفصل الشعب الكردي الواحد تزيد عن 800 كيلومتر، وتتوزّع غالبية كرديّة سوريّة تركية، مضغوطة مخنوقة، المناطق والأرياف المحاصرة على طرفي الحدود التي يعود وضعها، من دون إيلاء الوجود الكردي أي اعتبار، إلى نهايات الحرب العالمية الأولى وتبعاتها المعروفة. وبالنظر إلى اعتبار جغرافي بشري عميق ومحلّ تنازع كهذا، لا يمكن تركيا النجاح في إتمام عقد سلام تركيّ - كرديّ راسخ وخلق بيئة تعايش مستقرة وآمنة بين"شعبَيْن"وهي تتقدم خطوة إلى الأمام، ومن ثمّ تتراجع لتعود إلى الوراء عشرات الخطوات. هذه المراوحة في مكان سياسي جغرافي شبه حبيس ومغلق، واستبدال حلول جذرية بحلول موقتة وهشة لا تستولد غير مراوحة في تأجيل العنف ومدّه بأسباب نشوب لاحقة، الأمر الذي يعكر أفق العلاقة"الأخوية"الطارئة والتي تبدو في الظاهر أنها قطعت أشواطاً بعيدة في التحسن وتخفيف الضغط عن الكرد، لكنها في العمق لا توفر بيئة مناسبة لأيّ ضمانات مستقبلية يمكن الثقة بخواتيمها. إن حال التضييق والحصار الخانقين اللذين تفرضهما السلطات التركية على الكرد السوريين ليس سوى علامة سيئة، وهي تنذر بتوجه غير سديد تسلكه حكومة رجب طيب أردوغان التي تفضل، أغلب الأحوال، مبالغات إعلامية أشبه بمهرجانات خطابية على حلول راسخة تجد قدميها وتثبتهما على الأرض، ولا تكتفي بكلمات وديّة معسولة لا تغني أحداً، لئلا تسدّ الطريق مجدداً أمام تنامي العنف وتأجيل الحلّ المتكامل بحلول ناقصة عرجاء. يستدعي سلوك طريق التأجيل المخاتل هذا شعوراً بفقدان الثقة لا رسوخها، فيما الثقة، إذا ما كانت تركيا جادّة في توجهها السلميّ طيَّ صفحة الحرب المديدة المتنقلة، تتضمن معنى الاعتراف الشامل بوجود"شعب"آخر، الأمر الذي يعني في ما يعنيه تغييراً جوهرياً في أساس نشوء الدولة التركية. والحال أن الدساتير والقوانين إنما تتبدل بسبب حاجات جوهرية ملحّة لا يمكن تأجيلها إلى ما شاء الله، لا وفق مصالح آنية فقط. أمّا عقدُ صفقات موقتة، وتبنّي حلول أمنية سريّة وغير سرية والبحث عن تسويات ومخارج ناقصة، فليست سوى دليل على قصور في النظر، الأمر الذي يحمّل أجيالاً جديدة"بريئة"عبء أجيال سالفة، سلكت المسلك الخاطئ في حلّها قضية بالغة التعقيد، وهي القضية التي راح في سبيلها عشرات آلاف الضحايا من كرد وأتراك على السواء. لا يزال هناك نواب أكراد مثلاً، انتخبوا على نحو شرعيّ وفق القوانين التركية، قابعين في السجون، وثمة أطفالٌ أحداثٌ يعتقلون بسبب تظاهرات سلميّة، هذا إن لم نذكر صحافيين أتراكاً يُطردون من أعمالهم على نحو تعسفيّ جائر، إضافة إلى سياسيين أكراد، وأحمد تورك واحد منهم، يُمنعون من العمل العلني لسنوات طويلة تحت ستار حجج قانونية واهية. وفي المحصلة الموجزة، لكل هذا التذرر والتشتت والتأجيل والتسويف، يبقى أن المسار نحو حلّ متوازن وقابل للحياة يحتاج إلى منظومة قانونية ودستورية شاملة وكافية، ولا يكفي"الدولة"التركية سماحها بتداول اللغة الكرديّة ولا منح محض حقوق ثقافية هنا وهناك، كأنما تلك الحقوق منّة أو صدقة! فأكراد تركيا وسواها ليسوا شعباً طارئاً ولا ضيوفاً ولا أجانب غرباء قدموا فجأة إلى أرض ليست أرضهم. هؤلاء سكنوا هذه المنطقة لقرون، عملوا وعاشوا، وحالهم في هذا الشأن كحال جيرانهم، والإصغاء إلى حقائق الجغرافيا البشرية يبقى أهمّ من التمسّك بأوهام التاريخ الذي تصنعه لغة السطوة وحسب، ولنا في تجربة الاتحاد السوفياتي الغابر درسٌ محلّ تذكير، فلا الحديدُ الطاغيةُ ولا الأسلاك المبرومة الشائكة تكفي لحماية حدود الدول وتحصينها، وهي إلى الصدأ أقرب منها إلى الصدّ والمنعة. الأجدر بحكّام تركيا، إذا ما أرادوا تحصين"الدولة"، لا أحد أحزابها الطافية طفوَ الخشب على سطح مياه ثقيلة، النظر ملياً في تناقضاتهم، وقد سبق لجارهم السوريّ"العزيز"، وكان حليفاً، أن لعب على هذا الأمر لعقود، وها هو يتحوّل إلى دمية صغيرة بيد صانعيه الكبار البارعين! * كاتب وشاعر سوري