في السنوات الأخيرة بدأت أنشد الكمال المطلق في العزف الموسيقي، بعد أن انتقل اهتمامي إلى سماع موسيقى البيانو وحدها تقريباً. أو ربما يعود هذا الهاجس عندي إلى سنوات أسبق، مذ قرأت كتاب ادوارد لوكسبايزر"ديبوسي، حياته وفكره". كان هذا من بين أجمل الكتب التي قرأتها في حياتي، كان الفصل المعنون"تقنية الوهم"في الموسيقى شيئاً أذهلني، وجعلني استمع إلى الموسيقى بأذن جديدة. المسألة المركزية هنا هي صوتية البيانو. أشار إدوارد دينت إلى أن بيتهوفن كان يوصي عازفي موسيقاه على البيانو بأن يدركوا أنه كان يقلد الأوركسترا وحتى الغناء. لكن مثل هذا الكلام لم يكن يعني شيئاً عند ديبوسي. فمع أن ديبوسي عزف في شبابه مؤلفات بيتهوفن الأخيرة التي طور فيها فكرته الأساسية عن البيانو، إلا أنه وجد نفسه على نقيض تام مع مؤلفات بيتهوفن على البيانو. في 1909 كتب يقول:"لقد توصلت إلى قناعة تامة بأن مؤلفات بيتهوفن على البيانو رديئة". ولا بد أن نشير هنا إلى أن ديبوسي لم يعجب بأي موسيقي ألّف للبيانو، سوى بشوبان. ونحن هنا لسنا بصدد المفاضلة بين موسيقى بيتهوفن وديبوسي. إننا نريد أن نتابع مزاجية أو صوتية البيانو منذ أوائل القرن التاسع عشر، أو قبله، وحتى نهايته. وفي هذا الإطار، التمرد على موسيقى سابقيه، عدا شوبان. أكد ديبوسي للعازفة مارغريت لونغ أنه يمقت كثيراً كونشرتات موتسارت على البيانو، لكن على نحو أقل من كونشرتات بيتهوفن. ويقول ادوارد لوكسبايزر: لا أحد يشك في صحة هذه الآراء عن البيانو في المرحلة الأولى من القرن التاسع عشر. ويرى مع إدوارد دينت، أن البيانو كان يراد منه أن يجترح نغمية ليست موفية بالغرض. ويشير إلى مدرسة في أواخر القرن التاسع عشر حاول فيها عازفو البيانو اجتراح"نغمية غنائية"، مع أن هذه متعذرة فيزيقياً على البيانو. وبالتالي تقبل هؤلاء العازفون المبدأ القائل إن أصوات البيانو كانت معادلة في جوهرها لأصوات الآلات المعززة. وإدراكاً بأن نوطات البيانو لا يمكن أن تكون أصواتاً حقيقة، بل إلماعات لها، فقد أوجد شوبان ولست تقليداً آخر. كان هذان الموسيقيان موسيقيي البيانو بحق. كان أسلوبهما يستند إلى إدراك الحقيقة القائلة إنه لما كانت المطرقة تضرب الأوتار، فإن النوطات تُجترح نقراً وإن أمدها لا يمكن أن يتحقق إلا اصطناعياً. لكن ديبوسي طور بشجاعة هذه الميزة الإيهامية في البيانو. وقد أكد لمارغريت لونغ ولويز ليبش أن البيانو ينبغي أن يكون وكأنه"آلة بلا مطارق"، وأراد أن تبدو الأصابع على مفاتيح الآلة كأنها"تتخلل النوطات". هنا يصبح الوهم كاملاً. لا يمكن السماح بإحباط الانطباع بأن البيانو الميكانيكي، وهو مجرد"صندوق للمطارق والأوتار"، ليس البيانو. هنا يريد ديبوسي أن يؤكد على أهمية اللمسات، التي تورث الانطباع الإيهامي في الموسيقى. حقاً إن هذه الضبابية في صوتية البيانو هي نتاج تقنية في العزف رهيفة جداً. وكانت ماري جايل يايل؟ معلمة بيانو قديرة، وكانت سكرتيرة فرانز لست، الذي قال عنها إنها تملك"عقل فيلسوف وأصابع فنان". ومعظم ابتكاراتها تدخل في باب البحث عن طبيعة اللمسات. وإن ازدياد اهتمام ديبوسي بأعمالها النظرية، مثل كتابها ميكانزم اللمس، يدعو إلى الاعتقاد بأن هذا إن لم يكن أحد منابع فكرته عن مفاتيح البيانو، فإنه خط موازٍ للفكرة على الأقل. كان تحليلها النغمية يتوقف على درجة الحساسية في نهايات الأصابع، كما تعتقد. وهذا أكد عليه ديبوسي أيضاً. بيد أن هناك بُعداً آخر في رنينية البيانو، وهو ما كان يهم ديبوسي ورافيل. وهو استعمال الدواسة بواسطة القدمين. والدواسة تلعب دوراً مديماً للصوت. وقد نبه لاستعمالها كل من شوبان ولست. ويتحدث أدولف كوباك عن استيطيقا العزف على البيانو، ويبدأ كتابه بالحديث عن ثلاث وظائف للدواسة: 1 تيسير الترخيم بين النوطات. 2 مضاعفة عدد النوطات التي تؤدى في أي وقت. 3 تشديد حدة الصوت. ثم ينتقل إلى الوظيفة الرابعة، وهي"إضفاء بُعد شاعري للمقطوعة". والحق أن الدواسة أصبحت روح البيانو بعد النصف الأول من القرن التاسع عشر. وبات استعمال الدواسة يضفي ميلودية أكثر مما لو كان العزف بدونها. أما استعمال الدواستين في آن واحد فتتمخض عنه حالة من الرقة لا مثيل لها."إن الطابع الرقيق، الضبابي، للصوت... يضفي على المقطع الميلانخولي بُعداً أكثر تأملاً وذاتية، والمقطع المرح أكثر حلاوة، والمقطع الهادئ أكثر أثيرية..."كما يقول كولاك. وقد انتقلت أفكار ديبوسي عن استخدام فن الدواسة أو الدواستين إلى العازفين، ريكاردو فينياس، ومارغريت لونغ، وكورتو، الذين عزفوا موسيقاه عندما كان على قيد الحياة. ولا أريد أن أدخل في مزيد من التفاصيل عن سحر الدواستين، لأنني أريد أن انتقل إلى الغرض الأساسي لهذه الكلمة، وهو علاقتي بموسيقى شوبان، وديبوسي، ورافيل، والأداء الأكمل، أو الأفضل، أو الأجمل، ولا أقول الأدق، لعزف مؤلفاتهم على البيانو. كنت أريد أن أتوقف عند شوبان لموقعه الكبير في نفسي، لكنني سأرجئ الحديث عنه ربما إلى مناسبة أخرى أقول ربما لأنني قد لا أجد الفرصة السانحة لذلك. سأنتقل، إذن، إلى"انطباعية"ديبوسي ورافيل، قبل العودة إلى عمليهما اللذين شغلا بالي حتى هذا اليوم. في الموسيقى الباروكية عصر باخ، هاندل، سكارلاتي، تعبر كل قطعة موسيقية عن شعور أو إحساس معين. أما الموسيقيون الكلاسيكيون هاندل، موتسارت، وحتى بيتهوفن فكانوا يعبرون عن أكثر من إحساس واحد في المقطوعة الموسيقية. حتى إذا انتقلنا إلى الرومانسيين بيتهوفن، بيرليوز، لست، شوبان، فاغنر، الخ، فلم يكونوا يعبرون عن أكثر من فكرة فحسب، بل إنهم استخدموا هذه الأفكار في التعبير عن الأشياء الملحمية. أما الموسيقى الانطباعية فهي تعبر عن مشاعر، بيد أن هذه المشاعر ناجمة عن انطباع حول منظر أو جو معين يخلقه الموسيقيّ. إنها موسيقى حسية، إذا جاز القول، على سبيل المثال، كيف تبدو السمكة وهي تسبح في الماء، الانطباعات هنا ليست واحدة. إنها مختلفة باختلاف السامعين... الموسيقى الانطباعية هي عن لمحات موسيقية من الحياة. من خلال هذه الموسيقى تجترح صورة، ويتوقف إدراك هذه الصورة، أو تصورها، على السامع. من هنا الانطباع الضبابي أو الغامض أو الإيهامي في هذه الموسيقى. وهناك تقنيات متعددة في التأليف، وكل موسيقي يستعمل التقنيات الآتية في موسيقاه: - الآربيجو: وهي توقيع النغمات توقيعاً متعاقباً بسرعة. - غليساندو: زحلقة الإصبع في الاتجاه الأيمن أو الأيسر من مفاتيح البيانو أو أي آلة مشابهة. - استعمال سلالم النوطات الكاملة أي من دون استعمال نصف النوطة. انتقل بعد ذلك إلى العملين الموسيقيين اللذين اعتبرهما من أروع المؤلفات الموسيقية على الإطلاق، هما مقدمات ديبوسي الكتابان الأول والثاني، وغاسبار دي لا نْوي لرافيل. وأريد أن أشير أيضاً، وربما قبل كل شيء، إلى مقطوعتي الأثيرية المفضلة ايستامب لديبوسي. لكن المسألة لا تتوقف عند ذلك. سيواجهني هنا همُّ جديد: الأداء الأكمل، أو الأفضل، لهذه المقطوعات. من دون ذلك لن يهدأ بالي. العازف هو روح الموسيقى، أو فيلسوفها. وليس كل عازف يستطيع أن ينهض بهذه المهمة. استمعت إلى مقطوعة ايستامب لعازفين شعرت أنها ليست ايستامب. إنها موسيقى أخرى. وخاب ظني أيضاً عندما استمعت إلى مقدمات ديبوسي"وغاسبار دي لا نْوي لرافيل. فما العمل؟ عندي تسجيلات متفرقة لهذه المعزوفات سجلتها من راديو الإذاعة البريطانية، كانت رائعة. لكن هذه منقولة على الكاسيت، وأنا أريد تسجيلاً أكثر نقاء لها على القرص المدمج. وعندما استشرت شركة أمازون، أرسلت إليّ أقراصاً مدمّجة للأعمال الكاملة لكل من ديبوسي ورافيل، عزف لوي لورتي، وجان إيف تيبوديه، اللذان احترمهما، لكنهما خيبا ظني. العازف الكندي لوي لورتي كان رائعاً جداً في أداء دراسات شوبان، لكنه خيب ظني في أداء الأعمال الكاملة لموسيقى رافيل على البيانو. وحتى تيبوديه في أدائه الأعمال الكاملة لموسيقى ديبوسي. شركة أمازون لديها تسجيلان آخران للأعمال الكاملة لكل من ديبوسي ورافيل للعازف الألماني المتوفى منذ الخمسينات فالتر غيزكنغ. أنا أعرف شيئاً عن هذا العازف، كان هو من بين أربعة عازفين اصطفاهم متحاوران في الإذاعة البريطانية عن موسيقى ديبوسي. هؤلاء العازفون الأربعة المتميزون هم ريكاردو فينياس الكاتالوني الذي عاصر ديبوسي ورافيل"وغيزكنغ"وسفياتسلاف رختر العازف الروسي المذهل"وروبير كاساديسو الفرنسي. اعترف بأن رختر أذهلني في أداء"ايستامب"، وإن كانت على الكاسيت... ولم أتردد في شراء الأعمال الكاملة لكل من ديبوسي ورافيل، أداء غيزكنغ. فماذا اكتشفت؟ أن فالتر غيزكنغ، العازف المذهل لبيانو ديبوسي، عزف مقطوعة"ايستامب"وكأنها شيء آخر لا أعرفه. فبماذا أخلص من هذا؟ إن هناك عزفاً أعمق من عزف، وينبغي علينا أن نميز. وهي مهمة أصبحت معقدة.