ما بين"سقف الوطن"، و"سقف الحرية"، يبدو أنه الصراع المحتدم الذي لا يبدو أن أفقاً له في عالم عربي اعتاد النفور من النقد، أو من أقل إشارة إلى الأخطاء والسلبية. ذلك على رغم أن أدنى إنسان عربي يتغنّى بمقولة أثيرة مفادها"رحم الله من دلّني إلى أخطائي"، ويتباهى برحابة الصدر، والروح الرياضية، ورأيي الصواب الذي يحتمل الخطأ، ورأيك الخطأ الذي يحتملك الصواب. ربما هو الإيمان بأن"الخطأ مهنة الآخرين". أو هو الاعتقاد بأن"عين الرضا"ينبغي لها أن تكلّ عن كلّ ذنب، وإلا فإنها"عين السخط"!.. ذاك الذي يضع المرء على الناحية المناقضة تماماً، فلا يرى إلا صورته، ولا يسمع إلا صوته، وإذ حدثته عن"سقف الحرية"، حدثك عن"سقف الوطن"، كأنما هما في تعارض حتمي، حتى يكاد ثانيهما يمحو أولهما. وعلى رغم أنه بين كلّ حين وآخر، وفترة وسواها، يقع حجر في مستنقع الركود العربي هذا، بما يمكن له أن يحرك شيئاً فيه، ويدفعه إلى الحركة والتفاعل، ومن ثم التبلور والنضج، إلا أن الدعوات السحيقة الوجود سرعان ما تطلّ ساحبةً الجميع إلى الانتظام و"التزام الأدب"، متوعدة من خرج عن السرب بالزجّ في خانة"قليلي الأدب"، و"الخارجين عن الطاعة"، و"الشاقّين صفّ الجماعة"!.. الآن، وهنا تتكرّر الحكاية ذاتها، وإن اختلفت الأشكال والتفاصيل والملامح.. وسنعود مرة أخرى زنازيننا التي بنيناها بأيدينا، ودافعنا عنها بأفكارنا، وضحينا على بواباتها، دفاعاً عن الظلام الذي فيها"فالظلام يخفي السوءات، ويواري العورات، فلا نرى ولا نسمع ولا نتكلم، ونستجدي أسطورة تلو أخرى، حتى لو كانت من القرود، نتلطّى في ظلالها، لعلها تنجينا من مواجهة الذات، وتحديات أسئلتها، ومعاناة أجوبتها. وفي وقت كان الظنّ يذهب إلى أن"الميديا"سوف تساهم في الخروج من هذا النفق الطويل، سرعان ما تأكد أنه"إثم"كامل الأركان، لتتحوّل"الميديا"ذاتها إلى عصا غليظة، متعددة الرؤوس، كثيرة الاستعمالات، في اتجاه معاكس لحركة التاريخ الصاعدة، باذلةً جهدها في الحفاظ على ما هو بال ورثّ، مفسحة الطريق أمام العقول الأكثر ظلامية ورجعية لإيقاع أشد العقوبات فيمن يحاول إشعال شمعة، أو توسيع هامش حرية. سوف تأتي الحلقة الجديدة من برنامج"البرنامج"، نموذجية في هذا السياق. نموذجية ليس بما قدّمته، أو حاولت قوله، أو فعلته.. بل هي نموذجية لأنها استطاعت إيقاظ كل ما هو كامنٌ ومتوارٍ، وربما مُخجل، من آليات ذات علاقة بردود الفعل العربية، لدى النخب والعامة، على السواء. سوف تتنصّل القناة ذاتها، في بيان رسمي لها، من كثير مما ورد في الحلقة، مُخليةً طرفها من أيّ مسؤولية، دالة على مدى ما أصابها من ذعر. وسوف تتحرك النيابة العامة المصرية دفاعاً عن"الأمن والسلم الاجتماعي"!.. وسنبقى نؤكّد أن"سقف الوطن"لا يرتفع كلما انخفض"سقف الحرية"، بل ينخفض معه.