تناولنا في مقال سابق بجريدة"الحياة"الجدل الدائر حول كون الثورة حدثاً استثنائياً وقصير الأمد في حياة الشعوب أو كونها حدثاً قابل للاستمرار. ونتعرض اليوم لمسألة أخرى ذات صلة، وترتبط بجدل آخر غير منقطع الصلة بالجدل الأول. فاليوم نعرض للجدل الدائر حول أيهما يعتبر الأفضل للشعوب: النهج الإصلاحي التدريجي أم الطرح الثوري الجذري السريع؟ والسؤال المطروح ليس سياحة فلسفية أو رفاهية نظرية، بل يتعلق بواقع معاش، مرت وتمر به دول عديدة، سواء دول عربية في سياق ما يعرف ب"الربيع العربي"، حيث أن بعض الدول العربية شهدت تحولات ثورية، بينما البعض الآخر، على الأقل حتى الآن، دفعت حكوماتها بمساع إصلاحية، ربما بهدف تجنب التحولات الثورية أو ربما من منطلق رغبة حقيقية في الإصلاح والتغيير السلمي والتدريجي، بل وحتى دول غير عربية عبر العالم مرت بمراحل مد ثوري أو بزوغ روح إصلاحية. وتعتبر الإجابة عن هذا التساؤل مهمة لمستقبل المنطقة التي نعيش فيها والعالم بأسره. فالداعون إلى الثورة يرون أن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية عندما تتدهور بعد حد معين فلا جدوى من محاولات الإصلاح، لأن مثل هذه المحاولات قد لا تؤدي إلى أكثر من تجميل الشكل الخارجي لهذه الأوضاع وإعطاء انطباع كاذب بحدوث تحسن فيها من دون أن يكون تغييراً حقيقياً قد دار في أعماق المياه الراكدة لهذه الأوضاع، كما أن من شأن محاولات الإصلاح تلك إضفاء الشرعية على هذه الأوضاع التي تبقى ظالمة تجاه الغالبية الساحقة من المواطنين. وبالتالي يرى هؤلاء أن الأمور في هذه الحالة تحتاج إلى تغيير ثوري يعصف بالأوضاع القائمة والمؤسسات والقوانين التي تدعم وجودها من الجذور ويحل محلها قواعد ومبادئ جديدة تبنى على أساسها قوانين ومؤسسات جديدة تتسم بالعدالة والإنصاف وتضمن المساواة أمام القانون وتكافؤ الفرص في مختلف مناحي الحياة في ما بين مختلف المواطنين أياً كانت انتماءاتهم. وفي المقابل، فإن دعاة الإصلاح يستدعون إلى الذاكرة أن الثورات الكبرى في التاريخ، وإن كانت بدأت بأهداف نبيلة تكاد تقترب من المثالية، انتهت بما يشبه الكوارث، على الأقل لعدد من العقود، بالنسبة إلى حياة الشعوب التي انطلقت باسمها هذه الثورات، وعجزت عن الوصول إلى ما دعت إليه ووعدت به في أغلب الأحوال، كما أنها أحدثت انقطاعاً مع ماضي الأمم التي قامت فيها هذه الثورات على رغم أن هذا الماضي لم يكن شراً كله بل كان به بعض الإيجابيات هنا وهناك والتي لم يتم البناء عليها بل تم البدء من الصفر بعد انتصار الثورات على رغم ما كان موجوداً من أساس في بعض المجالات. وهنا يبرز أتباع المنهج الإصلاحي أن نهجهم يتيح الفرصة للانتقائية لدي القيام بعملية التغيير بهدف اختيار القطاعات التي تعاني تراجعاً أو عدم توازن بعد دراسة هادئة وموضوعية لا تمليها ضغوط"الشارع"، بل مقتضيات المصلحة الوطنية. كما يشير أصحاب هذا النهج إلى أن الطرح الثوري عادة ما يخيف جيران الدولة التي تقوم بها الثورة، وكذلك القوى الدولية صاحبة السلطة في اتخاذ القرار على ساحة المجتمع الدولي، ما يوجد بيئة محيطة معادية، أو على الأقل مستريبة، تجاه الدولة التي شهدت الثورة. ولكن ما يغيب عن بعضهم أنه لا توجد بالضرورة حدود فاصلة بين الطرح الثوري والنهج الإصلاحي، وأن هناك فرصاً للتداخل أو حتى التكامل في ما بينهما في العديد من الأحيان. وأطرح هنا مثالاً تاريخياً لا يرتبط بالوطن العربي أو العالم الإسلامي ولكنه يأتي من الشرق الأقصى وتحديداً من اليابان. ففي عام 1868، قامت ما تسمّى ثورة الميجي في اليابان، والمفارقة كمنت في أن من قام بتلك الثورة كان الإمبراطور ميجي نفسه، والذي كان امتداداً لسلالة الأباطرة الذين حكموا اليابان منذ فجر تاريخها، أي أنه لم يأت إلى الحكم عبر ثورة، ولكن نهجه في الحكم بعد توليه السلطة عبر الطريق الطبيعي كان نهجاً ثورياً في إحداث تغييرات هيكلية في السياسة والاقتصاد والمجتمع الياباني وكذلك في علاقات اليابان بالعالم الخارجي. فهذا الإمبراطور هو الذي أنهى أكثر من قرنين من اللامركزية الفعلية التي فرضها ال"شوغانات"أمراء الحرب على الأباطرة السابقين عليه، وأعاد الطابع المركزي والموحد للدولة اليابانية. كما كان هذا الإمبراطور هو الذي وضع أول دستور تحدّث عن حقوق المواطن الياباني وواجباته، واهتم بالتعليم، سواء المدرسي أو الجامعي، وأعطى دفعة لإقامة جامعات حديثة في اليابان، وركز أيضاً على تعليم الفتيات اليابانيات بما في ذلك على المستوى الجامعي. وعلى الصعيد الخارجي، قرر الإمبراطور ميجي الانفتاح على العالم الخارجي، أيضاً بعد حوالى قرنين من الانغلاق شبه التام عن الخارج، وكثّف من إرسال البعثات الدراسية من اليابانيين لتلقي العلوم في الخارج والعودة بالمعارف الحديثة لتطبيقها في بلادهم والمساهمة في تحديثها، من دون التضحية بأصالة الشعب الياباني الثقافية وتماسكه الاجتماعي. وهكذا نرى أن الإمبراطور ميجي جمع بقدر كبير من النجاح بين الإصلاح والثورة في آن واحد بشكل متكامل ومتداخل ومن دون تناقض أو تعارض. * كاتب مصري.