ثلاثة أيام وأنا أبحث عن حمودة كمال حمودة بلا جدوى، 33 سنة، خرج من هذه البلدة ولم يعد، بجلباب بلدي وطاقية تميل إلى الخلف قليلاً، غير متزوج، وكلما سئل عن السبب، حدق في ساعة وهمية بيده اليسرى وابتسم قائلاً:"لسه بدري"، لكن عينيه في الفترة الأخيرة كانتا تلمعان وتحيدان بعيداً من البلدة قائلاً بشجن:"لسه النصيب مجاش". خرج حمودة بعد أن غنَّى في فرح السيد ابن مكة، لكنه لم يعد، فرفع الشيخ عبد الفضيل أذان الفجر بصوته الأجش، ووقفت فطوم الطاعنة في السن في طابور الخبز، ولم يعرف موظفو البريد حتى الحادية عشرة من الذي سيوزع الخطابات، وأُغْلق دفتر الحضور في وجه موظفة مثالية، وطُلب منها التقدم بإجازة عارضة، وضَرب رجل مسن طفله الوحيد علقة موت لسبب تافه، وعاد الشيخ عبد الفضيل في الثانية عشرة، ففتح جامع البحر وهو يلهث، ورفع الأذان بتأخير سبع دقائق كأنه يتشاجر، وقال:"اختشي يا حمودة وارجع... عيب عليك"، فسألته إن كان حمودة سيسمع النداء، فقال:"ربما"وأقام الصلاة، بعدها تقدم واحد ليتحدث معي، ولما تبين لي أنه أخرس، فردتُ ذراعي نحو الجالسين وقلت:"لما اسمع اللي بيتكلموا". أشار بيده: متى؟ فلويتُ إصبعي في الهواء وقلتُ:"بكرة"، واستمعتُ إلى المتكلمين فلم أصل إلى شيء. في صبيحة اليوم التالي، أذن الشيخ عبد الفضيل أيضاً للفجر، ووقفتْ فطوم العجوز في طابور الخبز، وظل راضي الذي ضربه والده بالأمس واقفاً بباب الدكان ولم يتكلم، فأعطاه البقال ورقة معسل، واستيقظتْ الموظفة المثالية ساعة بدري وجرجرت ابنها من يده إلى الحضانة بقسوة فبكى، فيما كان الأخرس واقفاً أمام دار حمودة، يفرغ القمح من حجره، وينثره إلى أعلى فيسقط خلف الباب المغلق، ثم يضع أذنه على الباب كأنه يتسمع حركة الطيور، وحين رآني ذكرني بوعد الأمس، فأعطيته الفرصة قبل باقي المتحدثين، فقال إن حمودة ذهب إلى بيت جميل نبت فجأة في أول البلدة، بخطاب، فخرجت له فتاة جميلة، أخذته منه وشكرته، فانتبه للمرة الأولى إلى اسمه وهو يخرج جميلاً من بين شفتي أنثى، فأعاد التحديق في عينين صافيتين وعميقتين، وسأل الجميلة عن اسمها، فتدللتْ، وعقدتْ له امتحاناً سألتْه فيه أن يذكر لها خمسة مسنين تعدوا المئة، وخمسة مواليد لم يتموا اليوم، وخمس سواقٍ سليمةٍ، وأخرى معطلة، وخمسة رجال بلا أعمام وخمسة لا خال لهم، وخمس بنات بلا أمهات وخمس بنات لا أخوة لهن. أجابها، فابتسمت وأخبرتْهُ باسمها، وحين رأى نفسه في عينيها الرائقتين جميلاً، سألها إن كان بإمكانه أن يقف"كمان شوية"، فقالت لو أخبرها عن خمسةِ فقراء يحبون خمسةَ أغنياء، وخمسةِ عقلاء يصادقون خمسةَ مجانين، وخمسةِ أطباء بداخلهم خمسة دجالين، فأخبرها ووقف يتأمل وجهاً بلون الحليب، ثم سألها إن كان بوسعه أن يراها كلما مر من هنا، فقالت عندما تخبرني عن أبشع شيء في الوجود، فقال: أخذٌ بلا عطاء، وأجمل شيء في الوجود، فقال: حبٌ بلا مقابل. احمر وجهها الجميل خجلاً، وسألته إن كان يعرف من يحلق للحلاق، ويدفن اللحاد، ويعالج الطبيب، فأجاب، فسألته عمن يعد كوشة العرسان، فأشار إلى صدره وابتسم، قالت وهي تتدلل: ومن سيعد الكوشة لك؟ فأشار إلى البلدة وقال: أحبابي. قالت: وإن لم يفعلوا؟، فترقرقت عيناه وقال:"مش عارف"فصرخت الجميلة من خلف السور، وقالت بفرح:"أخيراً عثرت على ما أبحث عنه". وضعتُ كفِّي على فم الأخرس، ولويتُ إصبعي في الهواء وقلتُ:"غداً نكمل"، وسرتُ باتجاه جامع البحر، فلم يدهشني خلو الأفق الأخضر من بيت جميل نبت فجأة، وفتاة جميلة تبحث عن سؤال بلا جواب، بقدر ما أدهشني سير الحياة في نظامها المعتاد. "اخزي الشيطان يا حمودة وارجع... ميصحش اللي انت بتعمله". بدا نداء الشيخ يائساً بعد أذان العصر، كأنه يعاتب حمودة الذي أمسك بالميكروفون أول أمس، قبل أن يختفي، وأذن للفجر بصوت عذب، ووقف بعد ذلك في طابور الخبز، واصطحب الأطفال من أيدي الأمهات الذاهبات إلى العمل، وأوصلهم في طريقه إلى الحضانة، ونبه عيد البقال إلى راضي الواقف منذ فترة، فأعطاه المعسل، وسجل في النوتة، ثم طرق باب فطوم وناولها من فتحة الباب ثلاثة أرغفة، ثم ذهب إلى طيوره البيضاء التي تنتظره، فوضع لها القمح وغنى حتى حانت عزومة السيد بن مكة، فكان كأم العروسة، فاضية ومشغولة، يوزع الأطعمة، ويعزم على الضيوف بالطعام، ويصب الماء لمن أكل، ثم يناوله الفوطة وكوب الشاي، وعاد قبل المغرب من جهة الحقول، يجر خلفه جريدتي نخل عليهما فروع صفصاف وأوراق موز، ونصب"الكوشة"أمام باب السيد بن مكة وزينها بزهور"ست الحسن"، وفي المساء غنى بشجن أكثر مما يجب، ورقص مع الأخرس رقصة التحطيب، قبل أن يسبق العروسين إلى البيت، وانسلَّ من البلدة من دون أن يعرف أحد لماذا ازدادت أغانيه عذوبة، أو إلى أين يذهب، باستثناء الأخرس الذي أشار بإصبعه إلى عينيه مؤكداً أنه تتبعه، فوجده يمضي الليل خارج أسوار بيت جميل، اشترطت الجميلة التي تسكنه أن يكون مهرها، مئة أغنية، ومئة يوم من الانتظار خارج السور، فوافق على الأولى وطلب التخفيف في الثانية، لأن النهار لأهله، أما الليل فإنه له وحده، فوافقت، فظل لتسعة وتسعين ليلة يبيت خارج سور بيت نبت فجأة في الخلاء ويعود مع الفجر. في اليوم الثالث لحقني محمد الأخرس، وهو يقبض على حجره الممتلئ بالقمح، وأشار إلى الدفتر متسائلاً إذا ما كنت قد توصلتُ إلى شيء، فنفضتُ كفيَّ في الهواء وقلتُ: لا شيء، فدمعت عيناه، وسار باتجاه المصرف، وسرتُ باتجاه المحطة، وبينما يغادر القطار البلدة، لاح في الأفق الأخضر بيت جميل، نبت فجأة في الضحى، فيما كان الأخرس يميل على حافة المصرف، ويترك حجره، فتسقط منه الطيور البيضاء ميتة.