يغوصُ الروائي المصري، محمد المنسي قنديل، بروايته الجديدة"أنا عشقتْ"، في عمق الواقع المصري وكوابيسه، وبدا، كمَنْ يخطو في المرارةِ التي تصيبُ عائداً من سَفَرٍ بعيد، إلى بلاده، التي مزَّقها الفسادُ وشرخَها الاستبداد، مُعتمِداً عينَ رحَّالة، يجوبُ العالم، وينهلُ منه بعضَ أعماله، كما فعل في روايته"قمر على سمرقند"، والتي شاء أن يرسم فيها شخصيَّة الآسيوي نورالله، كأوَّل تجسيدٍ شرقي لنموذج"زوربا"اليوناني. هذه المرَّة، يعود المنسي قنديل من حيث بدأ، من مَسقط رأسه في مدينة"المحلة الكبرى"، ليحكي رحلة بحثٍ مُضنٍ عن الحب، مُستعيداً أجواء قصص الحب المُلتهبة في حكايات"ألف ليلة وليلة"، مستعذباً"تيمة"الرحلة التي يقوم بها البطل، الذي تصادف أن يكون عاشقاً قاتلاً يحمل اسم"حسن الرشيدي"، تماماً مثلما تصادف أن تكون بطلتها العاشقة، نصف المَيتة، تدعى"ورد"، وتُفتتح بمطلع أغنية للشيخ سيد درويش، يقول:"أنا عشِقتْ وشُفت غيري كتير عشق، عمري ما شُفت المُرّ إلّا في هواك". "أنا عشقتْ"- الصادرة في طبعتها الثانية عن دار"الشروق"المصرية - رواية أصوات بامتياز، تتوالد فيها الحكاية على ألسنة أبطالها، حول علاقة كل منهم مع البطل العُقدة، العاشق الذي ترك حبيبته على محطة القطار ليهبط القاهرة، فماتت في مكانها لأيام عدَّة، إلى أن عادَ إليها"نصف ميت"في الصفحاتِ الأخيرة للرواية، بينما يجوبُ الراوي"علي"شوارع القاهرة، ليلتقي طلاباً ومُشرَّدين وعاهراتٍ وقوَّادين وشعراء ورجال أعمال بحثاً عن العاشق، وسط ركامٍ هائلٍ من القتلى والموتى والجُثث، من أجل فتاةٍ ماتت عشقاً، وعاشق أجبرته الأيام على التحوُّل إلى قاتل، فبدت الرواية محاولة لوصل مشاعر حب بين جثَّتيْن. الرواية كلها قصص حب مُجهَض، والعالمُ مليء بالمُخادعين، الجميع يحكون كيف تعرَّفوا إلى العاشق، الذي أصبح بين عشية وضحاها قاتلاً، بعد تجربة سجن سياسي وسط جنائيين، جعلت منه مُجرماً مُحترفاً، وحسَّنت علاقته برجال الأمن، إلى حدِّ أن"علي"لم يَسْلَم من شرِّه أيضاً، فقد دفعه العاشق المجرم، إلى المشاركة في عملية قتل، كأنه يعني أن الحب يُمكن أن يتحوَّل إلى جريمة كاملة الأركان، في زمن مُتوحِّش، تحكي عنه الرواية، أواخر التسعينات من القرن العشرين، في القاهرة. الفصول حملت أسماء أبطالها، مثلما حملت حكاياتهم وعوالمهم المتشعِّبة: من"علي - نهائي طب"القروي الساذج، الذي عاد قاتلاً من رحلة البحث المضنية عن العاشق، إلى"عزوز - مهرِّج الشوارع"، إلى"عبدالمعطي - خريج السجون"الذي عاد إلى شقة متهالكة في قلعة الكبش"فبات مذعوراً طوال الوقت، إلى"سمية يسري"المثقفة الشابة التي تجرِّب في جسدها كل شيء، وصولاً إلى"ذكرى البرعي"، سيدة الأعمال التي ترعى مقايضة مؤسفة على جسدها صارت بسببها من سكان القصور، كل ذلك جعل الرواية، حفنة قصص حبٍ مُجهَض، يقودها الموتُ إلى حيث يُريد. "أنا عشِقتْ"، هي عاشر كتاب في رحلة كاتبها - المولود عام 1949 - بعد خمس مجموعاتٍ قصصيَّة وأربع روايات، تمدَّد فيها اسمُه وعالمُه وأسلوبه، كواحد من أرهف أصواتِ الرواية المصرية، وأكثرها شاعريَّة وأصالة، خصوصاً بين مُجايليه، من روائيي السبعينات - إبراهيم عبدالمجيد ومحمود الورداني وعبده جبير وجار النبي الحلو وغيرهم - وإن ظلَّ أسلوبه يحتفظ ببريقيْن، هما الشاعرية المُرهفة، والمزج بين الأسطوري والواقعي، في رؤية لا تستبعد الواقع ولا تلغيه، ولا تتجنَّب التراث ولا تستعمله، كما لا تتخلَّى عن الخيال، على نحو ما عوَّدنا، المنسي قنديل في مُعظم كتاباته. منذ روايتيْه"انكسار الروح"و"قمر على سمرقند"عوَّد الكاتب قراءه على جرعة مكثفة من الشاعرية، الممزوجة دائماً بقصة حب، ميَّزت أدبه الروائي والقصصي وإبداعاته في أدب الأطفال منذ"احتضار قط عجوز"، و"بيع نفس بشرية"، وحتى في روايته الجديدة، التي كتب فصولها الأخيرة أثناء تظاهرات يناير من العام الماضي، إلا أنه لا يتخلى أبداً عن خياله، ذلك الذي يجعل الأدب طريقةً في الاستمتاع، قبل أن يكونَ، سبيلاً للوصول إلى الحقيقة. الرواية ليست صغيرة الحجم 430 صفحة، تفتتح بفصل بعنوان"الواقعة... كما عايشها ورواها أهل مدينتنا"، ومثل لوحة فسيفساء متداخلة تتداعى الحكاية، من عشوائية الموت في"قلعة الكبش"، إلى الانتفاضات والتظاهرات في جامعة القاهرة، أواخر القرن الماضي، ومن برودة الرخام في قصور الأثرياء إلى رائحة الفقراء من عمَّال المحلة، ومن انتهازية أكرم البدري، رجل الأعمال الصغير الذي يتآمر على سيده، إلى ثورية سمية يسري الطالبة التي تترك جسدها لأستاذ الجامعة. تنتهي الرواية نهاية سوداوية تتسق مع الراهن المصري، بعودة العاشق، مُحطَّماً ومطلوباً للعدالة، إلى حبيبته، التي تدب الحياة في جسدها، حين يطبع قبلة على شفتيها، وبدتْ عودته إلى الحبيبة، نوعاً آخر من هروب مجرم نحو مخبأ، أكثر من كونها عودة إلى الحبيب، حيث يُمكن الحب، أن يكون نهاية المطاف، لا بدايته، على أي حال.