أفاق"شوقي بزيع"على"الحُسَيْنيَّات"، فأنشدتْ فيه أناشيدَها. الجنوب قيثارتُهْ، وصباياه صبوتُهْ. غنَّى الجنوبُ فيه لأنه ابن الجنوب. وغنَّى المرأة استجابةً لنداء الحبِّ والجسدْ، ثمَّ إذ احتقنتْ حنجرته بالغناء راح يتساءل"لماذا أغنِّي؟ قلتُ""الأناشيد الحُسَيْنيَّة"، وانا أقرأ أعماله الشعرية المؤسسة العربية ولكنني لا أقول موضوعاتها، بل بُنْيتها. ومن أهمِّ سمات هذه البنية استطالةٌ في النَفَس، فاستطالةٌ في الوصف، فتأثيرٌ في المتلقِّي، واختطافٌ لقلبه ووجدانه. ومن مساوئ هذا الإسهاب في الشعر أنه يتمطَّى بالصور الشارحة. فالصور تشرح الصورَ، ويجرف الإيقاعُ الشاعر، فيُلجئه إلى مزيدٍ من الشرح. ولكن القصيدة تأتي أحياناً متعدِّدة حرف الرويِّ، فتفضي إلى إيقاعٍ لافتٍ ربما كان مصدره ما استقرَّ في ذاكرة الشاعر من شكلٍ أبُوذيٍّ طالما وظَّفته الأناشيد الحُسَيْنيَّة. الحبُّ والحرب من الموضوعات الأثيرة التي يفرضها على الشعر"جنوبُ"الشاعر، ويفرض معها الشهادة واللطم والمقاومة. والشاعر هنا طفلٌ يحاول الابتعاد عما تَعَلَّمه، فيصطنع لنفسه معجمه الخاصَّ به، ولكنه إذ يفلح على مستوى الموضوع، فإنه يبقى أسير الأناشيد الحُسَيْنيَّة نَفَسَاً وبناءً، وبخاصة في أعماله الأولى. لقد كتب الشاعر بالمحو"محو موضوعات"الأناشيد"، ولكن"الأناشيد"بقيت فيه تتلبَّس الشعر. وللمرأة كتب بالمحو أيضاً. تفتَّحتْ فيه الذكورة، فغنَّى للمرأة. وتفتَّحتْ فيه الحياة كما تتفتَّح في شجرةٍ من شجرات"الجنوب""هو الذي نبت كنبتةٍ جنوبيةٍ تغنِّي وتتفتَّحُ، فراح يغنِّي، على غرارها، وهو يتفتَّح للحياة. كتب للمرأة بالمحو"محو القوننة الدينية، واحتفظ بحقِّه في المتعة التي يكتنز بها شعر الشهوة. هكذا يتسلَّلُ الحسِّيُّ إلى شعره شيئاً فشيئاً، ويتسلَّل معه التساؤل عن كُنْه المرأة، وتتشابك العلاقة بين الحب والشعر، والمرأة والغيرة، والطهر والخطيئة، والشكِّ واليقين. وبدءاً من ديوانه السابع تتغيَّر اللغة فتنضج، والصورة فتشفُّ، ولا نعود نحسُّ بأن الشاعر يبحث عن القصيدة، بل هي القصيدة التي تجيء إليه. فاللغة تكثَّفَتْ، والصورة تَجَمَّلَتْ، وبات الشاعر يقول غير مستعينٍ بركائز خارجيةٍ، بل بصفاء التدفق الداخليّْ. أَجملُ شعر الحب عنده ما نبع من التجربة. وأَجملُ شعر الشهادة ما كتبه في الأقربين. ويبقى"الجنوبُ""جنوبَ"الشاعر الذي يمتدُّ ليشمل الوطن، ويمجِّد الإنسان. أما تساؤله عن الشعر، وخيبة الكلمات إزاء الشهادة، وعلاقة الشعر بالحب والمرأة والمقاومة، فقد جاء متأخراً يغذِّيه إحساسٌ مريرٌ بأن الشعر أضحى مقبرةً لكل ما هو حميمٌ عند الشاعر. ولقد يكون ديوانه الأخير"صراخ الأشجار"هو التجربة التي ارتفعتْ بهذه المقبرة إلى ذروة الشعر.