بينما تكشف الأزمة المالية والاقتصادية أوجه الترابط والتشابك البنيوية بين بلدان العالم، تميل بلدان كثيرة، وقطاعات عريضة من الرأي العام فيها، إلى التشكيك في جدوى مؤتمرات التنسيق والتشاور الدولية، على غرار"مجموعة العشرين". ولا ريب في أن صوغ اتفاق دولي على إحدى المسائل العامة والمعقدة، امتحان عصيب يقتضي من المسؤولين السياسيين طاقة وجهداً كبيرين. وأثناء الأزمات تستقطب معالجة الأمور المحلية والوطنية الطاقة والجهد هذين، أو معظمهما. وإلى هذا، تستهلك الأزمات سلطة المسؤولين ونفوذهم ودالتهم وتضعفها. ويؤدي تفاقم الأزمات، آخر المطاف إلى عرقلة سبل الاتفاقات، وتعقيد وسائلها، وتعسير شروطها. عندما انفجرت الأزمة الراهنة، في 2007- 2008، كانت السياسة المشتركة بين أقطاب كثيرين تعاني أزمة حادة بدورها. فمنذ توقيع بروتوكول كيوتو في مسألة البيئة، أوائل القرن العشرين وإنشاء محكمة الجزاء الدولية، وختام مفاوضات دورة الأوروغواي التجارية- وهي إنجازات لا يستهان بها- بدا أن العلاقات الدولية دبّ فيها ما يشبه الشلل. ولم تتمكن المفاوضات الطويلة من انضاج ثمرة على غرار تلك التي أحصيتها للتو، باستثناء إصلاح مجلس حقوق الإنسان، أحد مرافق الأممالمتحدة. والحق أن النظام الحالي أنشأه العالم الغربي بعد الحرب العالمية الثانية. وكان طي العلاقات الاستعمارية علامة على طريق تراجع أوروبا وخسارتها الصدارة الدولية والأيديولوجية. وتأخرت النتائج الاقتصادية المترتبة على هذا الانعطاف إلى اليوم، وهي متفاوتة بتفاوت القارات: فالقارة الأفريقية لا تزال أسيرة مثال استعماري. وفي تسعينات القرن العشرين، ظهرت بلدان فقيرة وقوية معاً في آسيا وأميركا الجنوبية. وحلت المسألة الاجتماعية العالمية محل مسألة علاقة الجنوب والشمال. والعولمة هي هذا: مرحلة تاريخية من توسع رأسمالية السوق محركها التكنولوجيا ومؤداها طرح المسألة الاجتماعية على نحو جديد. ومع أزمة 2008، أسفر النظام الاقتصادي الدولي عن عيب فادح هو افتقاره إلى ضبط القطاع المالي وعلاقاته، على خلاف ضبطه عدوى الأوبئة الحيوانية على سبيل المثل. وسبق أن تطرقت المحافل الدولية إلى الموضوع، من غير جدوى ولا إجماع، منذ أواخر ثمانينات القرن العشرين. فاقترح بعض الدول مراقبة السوق المالية وضبطها، بينما خشي آخرون، في طليعتهم الأميركيون والبريطانيون، لجم الابتكار وتقييده. وجاءت أزمة التسليفات الفائقة الأخطار نتيجة افتقار السوق المالية المعولمة أطر ضبط ومراقبة دولية نظير حرية تداولها وتداول المشتقات المالية، ومنها المشتقات المسمومة. ومن ثمرات الأزمة تعديل ميزان القوى الاقتصادية على صعيد العالم كله: فتسارَعَ نمو البلدان الناشئة بينما تباطأ نمو الولاياتالمتحدة وأوروبا واليابان. ولا ينكر أثر التباطؤ في اقتصادات بلدان الجنوب، لكن هذه أنشأت في الوقت ذاته أسواقاً داخلية على مقدار من الاستقلال والموارد يتيح لها نمواً ذاتياً لا بأس به. وبين هذه البلدان علاقات تجارية متعاظمة. واضطلعت الولاياتالمتحدة بدور راجح في دوام التفاوت بين القوة الاقتصادية والمكانة السياسية والتنظيمية الدولية. فالسياسة الاقتصادية والمالية الأميركية تميل على الدوام إلى التراضي والحلول الظرفية، فيما تفتقر إلى ضمان اجتماعي. فيعالج الأميركيون الصدمة التكنولوجية وارتدادها على سوق العمل من طريق سياسة توسعية. وفاقم أثر هذا النهج في الاقتصاد العالمي دوامُ تمتع الدولار بمكانة العملة المرجعية الدولية، وتخفف بلد الدولار، تالياً، من الضوابط الخارجية. لكن ميزان العلاقات الاقتصادية الدولية خرج من إطار لازمها طويلاً وقضى بتعويض الشمال امتيازات ماضية تمتع بها عنوة، وعليه اليوم تسديد غرامة عنها. والبلدان الناشئة تخلت عن الرسم الأيديولوجي، لكن معالجة أمور مثل تغير المناخ والتجارة العالمية من غير الإقرار ببعدها السياسي الجوهري، متعذرة. والبلدان الناشئة مختلطة اجتماعياً، فهي فقيرة لكنّ لديها عدداً كبيراً من الأغنياء، وهي غنية لديها عدد كبير من الفقراء. فتتصل مسألة العلاقات الدولية بالمسألة الاجتماعية من هذه الطريق. البلدان الناشئة لا تنكر ضرورة تعدد الأقطاب في العلاقات الدولية لكنها شديدة التحفظ حين يستدعي الأمر تخلياً عن السيادة الوطنية والانخراط في نظام علاقات وموازين لم تشترك هذه الدول في بلورتها وتعريفها، وتشعر بالغربة عنها. فهي، كما ترى، ليست صاحبة هذا النظام وليست من صنعه. لكنها، في الآن ذاته، لا تقترح نظاماً آخر وتقتصر على طلب حصص ومناصب في المنظمات الدولية، كما حصل في صندوق النقد الدولي من غير أن يلقى طلبها، المشروع، نجاحاً. وما تريده الدول والقوة الناشئة هو المفاوضة مجدداً على قواعد العلاقات ومعاييرها. ويترتب على الأمر الاتفاق على بنية الحوكمة العالمية، وهو يقتضي اتفاقاً على وظيفة منفعة عامة ومشتركة، أو على ميثاق قيم ومعايير جامع ينص على فعل ما يفعله الشركاء معاً. فالقضية، على هذا، هي قضية معنى وأدوات نظرية وحقوقية موجودة لكنها متعثرة التطبيق. والأسس والقواعد الجاهزة هي اليوم، غريبة المنشأ والمصدر ضمناً، ولم تمتحن مجدداً، ومرجعها الأيديولوجي هو الطور الأول من رأسمالية السوق. ولا يتفقُ المرجع مع عالم الصينيين والهنود الفلسفي. وما لا خلاف عليه هو أن عالمنا يحتاج دعاة من قيم مشتركة ينهض عليها، ويعوّل عليها بلايين البشر في سبيل بناء رجاء يجمعهم ولا يقتصر على سوق عالمية توحدها أسعار العمل والسلع وحدها، وإن كان دورها في النمو لا ينكر. ولا شك في أن التبادل التجاري يتغذى من فروق وتفاوتات تتعهدها رأسمالية السوق وتحولها ميزات تفاضلية. ومنظمة التجارة العالمية لا تحتاج إلى دعامة من قيم مشتركة، إلا في المجال المشترك بين التجارة والصحة أو بين التجارة والبيئة، أي حين تدعو الحاجة إلى التحكيم والتقاضي. والتجارة هي من تظاهرات العولمة، ومن طريق التبادل التجاري تؤثر التكنولوجيا في اليد العاملة. ويلاحظ أن التجارة سبقت العولمة، وكانت قرينة على التفاوت الحاد بين طرفي الصفقة التجارية، وعلى ثبات الفرق بينهما. وليست أولوية اتخاذ القرارات الحاجز الأول دون بلورة حوكمة العولمة. فالمشكلة الأولى هي المشروعية واتصالها بمسألة الانتماء أو الاشتراك. والناس لا يرضخون إلى التخلي عن جزء من السلطة التي يملكونها، وانتداب غيرهم إلى الاضطلاع بهذا الجزء، إلا بواسطة معيار تضامن وتكافل يعود عليهم بعائد. وعائد التضامن والتكافل- المترتب على المشروعية- هو السبب في معوقات الحوكمة التي تتعدى الأطر الوطنية وكيانات الدول. وحده الشعور بالانتماء يمكنه حضانة الحوكمة، والتمهيد لها وتمكينها. وهذا الشعور، اليوم، لا قرينة عالمية عليه. وأوروبا، في هذا المعرض، مختبر، ويعاني البناء الأوروبي عثرات لأنه يفتقد الشعور بالانتماء والمشروعية، ولأن الأزمات تدعو الناس إلى الانكفاء على وطنياتها. تدرك البلدان الناشئة إدراكاً حاداً تشابك المصالح الذي يسود العلاقات الدولية. ويصاحب الإدراك، من وجه آخر، بعض الضغينة على البلدان الصناعية. فبعد تصدي هذه البلدان إلى إلقاء دروس اقتصادية وسياسية على الدول الأخرى كانت السباقة إلى إدارة الظهر لها، والعمل بخلافها. لكن بروز القوى الناشئة، واضطلاعها بالدور المتعاظم الذي تضطلع به، يدعوان إلى تناول مسألة تعدد الأقطاب على نحو جديد. والحلول التعاونية، على خلاف إحباط المتشائمين، موجودة وإن لم تظهر للعيان على هذه الشاكلة وهذه الصفة. وينبغي ألا نغفل عن أن الأميركيين والآسيويين والأوروبيين لا يتعرضون لمشكلات واحدة. ففي كل هذه الدوائر تقوم بين الحرية وبين التضامن والتكافل، وبين الابتكار والجماعة، علاقة مختلفة وفريدة. وعلى سبيل المثل، يصدقُ القول أن في الولاياتالمتحدة يعود مكان الصدارة للحرية الفردية واقتصاد السوق، بينما يغلب في آسيا دور الدولة والروابط الأسرية والاجتماعية. وأوروبا في منزلة بين المنزلتين هاتين، ومشكلتها الملحّة والحقيقية هي البت في صيغتها الفريدة، أي جمعها اقتصاد السوق إلى دولة الرعاية، وهي قابلية هذه الصيغة للدوام. وفي منظور تاريخي، تغذت الصيغة المختلطة من عاملين: تنامي عدد السكان ونمو اقتصادي مضطرد، ولا مراء في أن المعادلة تغيرت. فهل في وسع الحماية الاجتماعية مقاومة العاملين اللذين نجمت عن فعلهما وتضافرهما؟ ليست الأجوبة عن هذه الأسئلة سالبة بالضرورة، ولا تباطؤ نمو أوروبا قدراً لازماً، وإنما لا مهرب من طرحها ومناقشتها. وقد لا تضطر أوروبا إلى التخلي عن ضماناتها الاجتماعية، شرط تعريف محاور أو دوائر التكافل والتضامن تعريفاً دقيقاً، وامتلاك الطاقة السياسية التي ترعى استنتاج النتائج. ويقتضي هذا مباشرة إصلاحات واسعة مثل تحسين المنافسة خصوصاً في الخدمات. وما لا شك فيه هو أولوية الابتكار والاستثمار في التربية والتأهيل وتحصيل المؤهلات الضرورية. ودعوة بعضهم إلى العودة عن العولمة نهج رجعي. فالعولمة صيغة حداثة وتقدم لا تنفك من الآلام ومن وجوه بعضها معتم، وبعضها الآخر مضيء ومنير. وباستثناء الجانب البيئي، تلد العولمة عالماً أقل سوءاً من سابق، ينطوي على احتمالات تعاون عظيمة شرط ترجمتها أنظمة عامة عددت للتو بعض ثغراتها الفيستفالية. والسيطرة على العولمة مسألة موازين قوى سياسية تتشابك مع الفروق الكونية والمقاومات السيادية. فهي تتخطى الاقتصاد وحده، على رغم أداء الاقتصاد دور الركن، وتتجاوزه إلى الجوانب الثقافية والرمزية. والأعوام التي قضيتها في منظمة التجارة العالمية أفهمتني أن المبادلات التجارية ترتب محاورة العقول ولا تقتصر على فتح الأسواق. إن الأزمة الأوروبية تقتضي تجدد سيادة ألمانية وفرنسية على أوروبا. فمن مفاعيل الأزمة انهيار المؤسسات والهيئات الاتحادية، وابتداء الانهيار كان في ماستريشت. وأدت معاهدتها 1992 إلى معاهدة ليشبونة، وهي أقرت حوكمة هجينة ومختلطة. وفي العقد الممتد بين 1990 و2000، أرست الديبلوماسيتان الفرنسية والبريطانية نهجاً يقدم السيادة الوطنية على النهج الجماعي والاتحادي الذي انتهجه"الآباء المؤسسون". والعامل الثاني في إضعاف الهيئات الأوروبية هو اختلال الميزان بين كفتي الوحدة النقدية والوحدة الاقتصادية. فلا تستقيم وحدة نقدية من غير التزام وانضباط وتنسيق اقتصاديين يحولان دون تعسف الأسواق المالية والمصارف. والمسؤوليات عن الأزمة الحالية مشتركة، يتقاسمها المجلس الأوروبي والمفوضية ورؤساء دول تخلوا عن عقد الاستقرار ودفنوه، شأن جاك شيراك والمستشار السابق غيرهارد شرودر. فلا خروج من الأزمة الأوروبية إلا بواسطة اندماج اقتصادي وسياسي قوي. واليورو حاجة ملحّة في سبيل الحفاظ على السوق الأوروبية والوحدة الجمركية ومكانة أوروبا العالمية. * المدير العام لمنظمة التجارة العالمية، عن"إسبري"الفرنسية، 6/2012، إعداد منال نحاس