لم يكتم آية الله الخميني، مؤسس الجمهورية الإسلامية، احتقاره الاقتصاد، على خلاف علي خامنئي الذي أحل الاقتصاد في القلب من جهد الأمة، وجعل السنة الإيرانية 1390 2011 - 2012 سنة"الجهاد الاقتصادي". وسمى السنة 1391 2012 - 2013"سنة الإنتاج الوطني ودعم العمل ورأس المال الإيراني". وميل المرشد الأعلى للثورة الإسلامية إلى الاقتصاد سببه هشاشة الاقتصاد الإيراني المتفاقمة ونتائج هذه الهشاشة على مستقبل الثيوقراطية الشيعية التي تسيطر منذ 3 عقود على أحد البلدان البارزة في الشرق الأوسط. ويوكل النظام إلى الإحصاءات الاقتصادية"مهمة"دحض"مؤامرة"الغربة على إيران. وتدور منذ أعوام طويلة حرب إحصاءات بين المسؤولين الإيرانيين البارزين وبين الهيئات الدولية. ورفض الخبراء الإيرانيون التكنوقراطيون، مثل موظفي المصرف المركزي، التصديق على الأرقام"السوفياتية"التي يعلنها السياسيون. واحتسبت إحصاءات صندوق النقد الدولي، في نيسان أبريل 2011، متوسط نمو الناتج الداخلي الإجمالي الإيراني في الأعوام 2008 - 2010 بأقل من 0.7 في المئة، في العام. وتوقع الصندوق أن يبلغ النمو صفراً في 2011، متخلفاً كثيراً عن متوسط نمو إقليمي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وآسيا الوسطى والقوقاز. ونددت سلطات الجمهورية الإسلامية بنوايا الصندوق"الخبيثة والمغرضة"، وكالت له التهم. ولكن، ما لا يسع المراقبين نكرانه هو أن الاقتصاد الإيراني يعاني أعمق كساد منذ نهاية الحرب مع العراق، في 1989. ويجمع الكساد الإيراني نمواً ضعيفاً إلى تضخم كبير. ويقول ممثلو غرف التجارة إن عدداً كبيراً من الشركات أغلقت أبوابها، وتلك التي تقاوم الإفلاس تشكو ضعف استخدام عوامل الإنتاج، وتعمل بأقل من طاقتها. وأدى التردي الاقتصادي إلى أزمة في سوق العمل، عبثاً تحاول التستر عليها أرقام غير معقولة تزعم إنشاء 2.5 مليون وظيفة في 2011 - 2012. ووفق مصادر شبه رسمية، بلغت نسبة البطالة الحقيقية نحو 20 في المئة، في شتاء 2011. وتصيب البطالة، في المرتبة الأولى، الشباب وحاملي الشهادات. وأما التضخم فهو داء مزمن، ولم يكد يخسر بعض الشيء حتى عاود الارتفاع. فبعد أن انخفض المؤشر الرسمي لأسعار الاستهلاك إلى 12.4 في المئة، في 2010، ارتفع في 2011، إلى 26 في المئة، وزاد عن توقع صندوق النقد الدولي 22.5 في المئة حائزاً السبق في الميدان التاعس هذا. وليس مرد تردي المؤشرات الاقتصادية العامة بإيران إلى أسباب ظرفية أو خلل إداري أو تقني، بل هو جزء من سيرورة انحطاط بلد نام عجز، على رغم طاقاته الضخمة، عن التكيف مع انقلابات الجغرافيا الاقتصادية الكونية في العقود الثلاثة الأخيرة. واقتصر أثر العقوبات الاقتصادية الأخيرة على تعجيل الانحطاط. ولا تعدم إيران عوامل إيجابية راجحة: فهي تملك احتياطاً نفطياً ثابتاً يبلغ 10.3 في المئة من الاحتياط العالمي، وباعها في استخراج النفط الخام وتسويقه طويلة. ويبلغ احتياط الغاز الثابت 15.8 في المئة، ولا يتقدم عليه إلا الاحتياط الروسي. وأركان إيران الثقافية والتاريخية متينة، وتتمتع بيد عاملة مؤهلة نسبياً، وانتقالها السكاني أو الديموغرافي، أي ضبطها زيادتها السكانية في حدود معقولة، نادر المثال في العالم الإسلامي، وتقاليدها التجارية عريقة ورعت على الدوام روابطها القوية ببؤر الاقتصاد العالمي الديناميكية. ولكن الاقتصاد الإيراني، على رغم هذا كله،"بارك"في مستنقعه الذي قاده إليه النظام المولود من ثورة 1979 الإسلامية، واختياراته الداخلية والخارجية الجوهرية. ولم يعد النظام النظر في سياساته العامة، غداة الثورة، بينما طرأت انقلابات اقتصادية عميقة داخل إيران وخارجها. فدستور 1979 لوَّح ب"برنامج اقتصادي إسلامي". ولم تخرج السياسة الاقتصادية عن"النماذج العلمانية"الناجمة عن"المذاهب المادية". واقتصرت طوال العقد الأول على صيغة أوكلت إلى الدولة إدارة اقتصاد موجه وتوزيعي. وعادت هذه السياسة إلى إجراءات ليبرالية في 1989 - 2005 لم تلبث أن اصطدمت بمعوقات بنيوية نجم معظمها عن عقيدة أركان النظام الثيوقراطي. وأفضى إخفاق الإصلاحات إلى مد شعبوي أناخ بثقله، طوال 6 سنوات، على الحياة السياسية والاقتصادية الإيرانية. وتضرب سيطرة الدولة الإيرانية على حقل الاقتصاد بجذورها في أعماق تاريخ فارس. وحملت السياسة التحديثية التي انتهجها الشاهان البهلويان في القرن العشرين، وكذلك الريع النفطي، على تقوية مكانة الدولة وتدخلها. ولكن النظام الذي أنشأته ثورة 1979 أناط بالدولة مقاليد الإدراة الاقتصادية على نحو غير مسبوق، وألزمها بناء اقتصاد مغلق ومفرط الحمائية، وحظر على الأجانب حظراً مطلقاً تأسيس شركات عاملة، وأوكل إليها بناء قطاع عام يشمل الصناعات الكبيرة أو التجارة الخارجية والمصارف وشركات التأمين، ويرعى دور دولة العناية الريعية وتصرفها في عوائد"الذهب الأسود"وتلبية حاجات الأهالي الأولى من سكن وصحة وتعليم. فشهدت إيران، في ثمانينات القرن الماضي، أفولاً اقتصادياً قل نظيره في القرن العشرين: فبين 1977 ? 1978 و1988 - 1989، تقلص الناتج الداخلي الإجمالي، بالريال، 1.5 في المئة في السنة الواحدة. وأدت زيادة السكان، في الأثناء، إلى تدهور أعاد الاقتصاد 20 سنة إلى الوراء. والانهيار الاقتصادي كان عاملاً مؤثراً في قبول آية الله الخميني قرار مجلس الأمن 598، في 20 تموز يوليو 1987، القاضي بوقف النار بين إيرانوالعراق. وانتهجت إيران طريق الإصلاح الاقتصادي والليبرالي في عهدي علي أكبر هاشمي رفسنجاني 1989 - 1997 ومحمد خاتمي 1997 - 2005. وأقرت حكومات الرئيسين 4 خطط خمسية لم يعمل بها إلا جزئياً. ونهضت الخطط الخمسية على 3 دعائم: الانتقال من اقتصاد النفط الريعي إلى اقتصاد تصدير سلع مصنعة وتقليص تبعية موازنة الدولة للنفط وزيادة الضريبة على الأنشطة الاقتصادية المحلية، والانتقال من الإدارة الاقتصادية المركزية إلى اقتصاد السوق وتخصيص الشركات العامة. وأخيراً، التخلي عن الاقتصاد المغلق والمنكفئ إلى اقتصاد منفتح يستقبل الاستثمارات الدولية ويكسر العزلة. ولا ريب في أن إصلاحات رفسنجاني وخاتمي أثمرت بعض النتائج الإيجابية. فهي وحدت سعر صرف العملة، وأصلحت النظام الضريبي بعض الشيء، وجعلت التجارة الخارجية أكثر مرونة، وأقرت قانون استثمارات جديداً، واستدرجت رجال أعمال إلى افتتاح مصارف وطنية. ولكن الإجراءات المتصلة لم تقيد سيطرة الدولة، ولم تقلص التبعية للريع النفطي. والتزمت الإصلاحات مصالح مراكز السلطة والنفوذ التي يتربع المرشد في وسطها وقلبها. وحال مناخ الحذر والشك الغالب على الحياة السياسية دون مساندة القوى الحية الإصلاحات، واقتراح إصلاحات أعمق. وحالت سياسة المرشد المعادية للغرب دون مغامرة الشركات الأوروبية في الاستثمار. وبدا جلياً أن أي تقييد أو تقليص للاقتصاد الذي تسيطر عليه الدولة، ويقوم على النفط، إنما ينخر أركان سيطرة النظام الإسلامي. وخلف إخفاق الإصلاحات صعود نجم الشعبوية في قيادة محمود أحمدي نجاد. ويشبه"برنامج"أحمدي نجاد الاقتصادي برنامج العالمثالثيين في ستينات القرن العشرين. ويقوم على مديح الاكتفاء الذاتي، ويدعو إلى عدالة اجتماعية من طريق توزيع الريع النفطي، ويتحفظ عن اقتصاد السوق ويتهمه بخدمة"غطرسة الاستكبار". ولم يكد أحمدي نجاد يتسلم مقاليد الرئاسة حتى عمد إلى إقصاء التكنوقراط المتحدرين من تيارات الإصلاحيين أو القريبين منها، وعين محلهم من تقتصر كفاءاتهم على موالاته. وأسعف ارتفاع أسعار النفط سياسة الرئيس الشعبوي. فحافظت الحسابات الخارجية على فائضها، ومولت العوائد المتعاظمة استيراداً ضخماً سد فجوات الإنتاج الوطني. ولكنها لم تؤثر في ارتفاع التضخم والبطالة، ولم تقلصهما. وبادر أحمدي نجاد، في نهاية ولايته الأولى، إلى معالجة الثغرة الفاغرة الناجمة عن سياسة دعم استهلاك الطاقة والسلع الضرورية الأساسية. وانتظر عام 2009، أي بداية ولايته الثانية، ليضع مسألة نفقات الدعم في القلب من سياسته الاقتصادية الجديدة. وتبلغ نفقات الدعم 25 في المئة من الناتج الداخلي الإجمالي، على ما تقدر حسابات صندوق النقد الدولي والاقتصاديين الإيرانيين. ودعا مصممو الخطتين الثالثة والرابعة إلى إلغاء الدعم تدريجاً. وقاوم المحافظون، ومن ورائهم المرشد، الإجراءات المؤدية إلى"حقيقة"الأسعار، مقاومة شرسة. واقترح أحمدي نجاد، في برنامج حملة ولايته الثانية، إلغاء الدعم تدريجاً في غضون 5 سنوات، واستبداله بتقديمات نقدية مباشرة مصدرها الوفرات الناجمة عن إلغاء نفقات الدعم. ومدح صندوق النقد الدولي هذه الإجراءات وأيدها. وبدأ تطبيق القانون في 19/12/2010، بعد أشهر من التلكؤ. ومذّاك تمنح الخزينة كل إيراني، بمعزل من دخله وعمله، 455 ألف ريال نحو 18 يورو في الشهر الواحد. وقد يكون الحافز على هذا الإجراء الذي يخالف السياسة الاقتصادية المحافظة مخالفة رأسية، تطور القطاع النفطي، وتعاظم الاستهلاك الداخلي على حساب التصدير. فعوائد النفط الخام الغالية بين 2005 و2010 بلغت 61 بليون دولار في السنة، وبلغت 85 في المئة من قيمة الصادرات و70 في المئة من موارد الموازنة. ويتهدد تآكل الدعامة الاقتصادية الأولى، وشيخوخة جهاز الإنتاج، النظام الثيوقراطي بالانهيار. فالإنتاج الإيراني كان بلغ، عشية الثورة، 6 ملايين برميل في اليوم. وهو لا يتخطى اليوم 3.6 مليون برميل. وقلص تزايد الاستهلاك الداخلي حجم الصادرات من 5.5 مليون برميل في 1978 إلى مليونين في 2010. وفي الأثناء زاد عدد السكان ضعفين، ما أدى إلى تخفيض الدخل النفطي للفرد من 2435 دولاراً في 1975 إلى 933 دولاراً في 2010. ولم يؤت العلاج ثماره المرجوة. فعجزت الدولة عن تعويض خسائر الشركات. وأثقلت زيادة أسعار المحروقات على كاهل الشركات. وبدا أن توفير الخزانة من إلغاء الدعم أقل من تكلفة التقديمات المالية الموعودة. ويتهدد التضخم الاقتصاد الإيراني. فالحكومة قررت معالجة الأسعار بمراقبتها، ما تسبب في سلسلة إفلاسات طويلة، وقلص الإنتاج. وانتهجت سياسة الاستيراد علاجاً لزيادة الأسعار والتضخم. ولكنها أدت إلى انهيار جزء من الإنتاج الوطني وشركاته أمام بلدان مصدرة ذات قوة تنافسية لا تبارى مثل الصين. فطرق الاقتصاد الإيراني في كساد لم يشهد نظيره منذ نهاية الحرب بين العراقوإيران. ولولا أسعار النفط لغرقت إيران في دوامة التضخم والانكماش المدمرة. ولا يرجى علاج الأزمة الاقتصادية مع تعاظم دور العسكريين، وتمسكهم المستميت بانكفاء الاقتصاد، وغموض إدارته، وسيطرة"الحرس"على الشركات المخصخصة. وتفاقم عزلة إيران في قيادة"الحرس"وعهدتهم، العقوبات الاقتصادية القاسية التي أقرتها قرارات مجلس الأمن منذ انتقال ملف طهران النووي من الوكالة الدولية للطاقة الذرية الى مجلس الأمن في شباط فبراير 2006. وبعض الدول الكبيرة أقر إجراءات عقابية إضافية أدى بضعها، في الحقل المالي والمصرفي، إلى ضرب الشبكات المصرفية والمالية الإيرانية، وتعطيل عملها واتصالاتها وتجارتها. وقرار الاتحاد الأوروبي بفرض حصار نفطي، في 23/1/2012، وإلغاء عقود شراء الخام في 1/7/2012، وحظر تعامل إيران بنظام"سويفت"، ومواصلاته المالية العالمية، علامات انعطاف في مسار الاقتصاد الإيراني. فخسرت العملة الإيرانية 70 في المئة من سعر صرفها في سنة واحدة، ورفع التضخم أسعار المواد الغذائية. وأرجئ هدف بلوغ 5 ملايين برميل، في اليوم، إلى أجل غير محدد. وتبددت أحلام تسويق الغاز في الأسواق الناشئة. * استاذ جامعي، عن"إسبري"الفرنسية، 7/2012، إعداد م. ن. rt.com