ليس من شك في أن تحديات التغيير الاجتماعي في العالم العربي كبيرة لأن الأنظمة التسلطية فيه قمعت الحريات العامة والفردية طوال عقود، وساهمت في إلحاق الهزيمة بالفكر العربي الذي بقي أسير التبعية للغرب، بجناحيه الأوروبي والأميركي. ونتيجة لذلك اصيبت نسبة كبيرة من المثقفين العرب بالبلادة الذهنية، لدرجة أن قلة منهم تنبهت لإمكانية تفجر الإنتفاضات الشعبية أو توقعت حدوثها. ورغم إسقاط أربعة أنظمة عربية خلال العام 2011 ، إنحازت قلة ضئيلة منهم إلى جانب الإنتفاضات، وآمنت بقدرتها على التغيير الديموقراطي السياسي والإقتصادي والإجتماعي بصورة تدريجية. وهناك قناعة واسعة بأن الانتفاضات لن تفضي إلى التغيير المنشود لأن الكلام على الحرية، والديموقراطية، والخبز مع الكرامة، و"الشعب يريد إسقاط النظام"لا تنتج وعياً فردياً وجماعياً لدى الشعوب العربية التواقة إلى الحرية ما لم تنجح قوى التغيير العربية في إطلاق مشروع نهضوي جديد طال إنتظاره. يعالج نديم منصوري في كتابه" الثورات العربية بين المطامح والمطامع، قراءة تحليلية"، الصادر حديثاً عن منتدى المعارف في بيروت، جانباً أساسياً من تلك الهواجس. يناقش الاستراتيجيات الغربية عبر أبرز تجلياتها الحديثة: الفوضى الخلاقة، والشرق الأوسط الجديد، والاستعمار الالكتروني. ويحلل في المقابل تكتيكات الثورت العربية في مواجهة تلك الإستراتيجبات، وأبرزها: التدريب، والتمويل، والبديل، ويقدم ملحقاً خاصاً بعنوان:"أساليب العمل بإستخدام اللاعنف". ما زالت مقولة" الربيع العربي"تثير إشكالات عدة. فمن الباحثين من نفى عنها صفة الربيع نظراً الى ضآلة الإنجازات التي حققتها الإنتفاضات حتى الآن، ومنهم من أكد النهاية السريعة للربيع العربي بعد أن حل مكانه خريف ثورات تلفظ أنفاسها الأخيرة تحت وطأة تحديات التيارات الاصولية التي تسلمت مقاليد الحكم في مصر وتونس. وكان الوصول السهل لهذه التيارات إلى السلطة في عدد من الدول العربية مثار تساؤلات منهجية حول الفرصة التاريحية التي قدمتها الانتفاضات الشبابية للأصوليات الإسلامية بحيث تمكنت من تسلم الحكم بالطرق الديموقراطية السائدة. لكن العالم العربي يواجه اليوم تحديات الأزمة العامة للرأسمالية التي تعصف بالولاياتالمتحدة نفسها وتهدد بعض الدول الأوروبية المتطورة، بالإفلاس الإقتصادي. ناهيك عن تعزيز ركائز المشروع الاستيطاني الصهيوني الذي يكاد يبتلع كل فلسطين، ويستحوذ على جميع أراضيها ومقدساتها في القدس وبيت لحم ويعتبرها من تراث أرض إسرائيل التاريخية. لقد بدت التيارات الإسلامية بمحافظيها وسلفييها، محرجة وعاجزة عن مواجهة الأزمة العامة للرأسمالية والهيمنة الإسرائيلية على كل فلسطين. وهناك دلائل بالغة الخطورة تشير إلى وجود إتفاقات ضمنية بين تيارات إسلامية في مصر وتونس مع إسرائيل، برعاية أميركية. وهدفها المعلن هو الحفاظ على إتفاقات كامب دافيد، مما يساعد على توسيع دائرة العنف الداخلي بين المجتمع والدولة في كل بلد عربي على خلفية مقولة" الفوضى الخلاقة". وهي فوضى حقيقية تخضع السياسة لهيمنة الرأسمالية العالمية التي تديرها الولاياتالمتحدة، وتدعمها قوى عسكرية عالمية وإقليمية ومحلية بمشاركة من قوات الناتو، والقوات الإسرائيلية. وهي تشكل غرفة عمليات موحدة وجاهزة دوماً لنشر الفوضى المستمرة وتوسيع دائرة الحروب الأهلية لمنع قيام أنظمة ديموقراطية مستقرة في أي بلد عربي. ويلعب الاستعمار الألكتروني كسلاح حديث يضاف إلى الفوضى الخلاقة، والأسلحة التقليدية وفي طليعتها مقولة"فرق تسد". الفوضى الخلاقة يقدم المنصوري نماذج عدة من عملية الهيمنة الكاملة على الشعوب العربية من خلال تدامج القوة الناعمة مع القوة العسكرية، والفوضى الخلاقة مع سياسة فرق تسد، والتجسس الالكتروني مع التدريب على الحروب الافتراضية. واللافت هو عملية الربط بين تحركات الشارع العربي والتكتيكات التي تستخدمها الثورات العربية من جهة، ومفاهيم اومصطلحات النضال غير العنفي الذي بشر به معهد أنيشتاين كحل موثوق به للصراع العربي- الإسرائيلي من جهة أخرى. مما يثير علامات إستفهام كبيرة حول علاقة الانتفاضات العربية بالنضال اللاعنفي في منطقة تشهد حالة من الغليان السياسي والعسكري، وصعود تيارات أصولية توهم بعضهم أنها تجنح للنضال المسلح بهدف التخلص من إسرائيل والمشروع الصهيوني، فإذا بها تجنح للسلم معه. وهي تقدم تنازلات متلاحقة للراعي الأميركي لردع إسرائيل عن التحرك حتى لا تحرم التيارات الأصولية من متعة السلطة بعد أن وصلت إليها عبر إنتخابات ديموقراطية. ما زالت دفة الحكم بأيدي قوى عسكرية تخطط للبقاء في السلطة تحت ستار"منع تيار سياسي واحد من التفرد بحكم مصر". والولاياتالمتحدة لا تدافع عن أنظمة تهاوت في مصر وتونس. وتخلت عن إسقاط النظام السوداني بعد قبوله بتقسيم البلد إلى دولتين. وخططت لتغيير الأنظمة السياسية في كل من سورية، وليبيا، واليمن، وإيران، ودول أخرى. وإستخدمت لتحقيق أهدافها إسترتيجيات مركبة منها فرض العقوبات الاقتصادية، والمالية، وحظر التسلح، ومنع إيران من الحصول على السلاح النووي، وتبني مقولة الفوضى الخلاقة، وإبعاد الشركات الأوروبية والصينية واليابانية والروسية عن منابع النفط، ومحاولة إحتكار الصفقات الداخلية، والتحكم بإنتاج النفط واستخدامه لإعاقة عملية التنمية المستدامة في الصين والهند ودول النمور الآسيوية. تخلت الولاياتالمتحدة عن أنظمة إستبدادية كانت تابعة لها في الشرق الأوسط. وإستفادت من الانتفاضات الشبابية العربية لتطلق إستراتيجية جديدة شعارها دعم التحول الديموقراطي بهدف الحفاظ على الاتفاقات الأمنية مع إسرائيل. وتركت الأحداث تتفاعل ديموقراطياً داخل الدول المنتفضة. وتقبلت وصول قيادات جديدة معادية لسياسة الأميركيين في الشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه، مارست ضغوطاً كبيرة على حلفائها العسكريين لمنع الوصول السريع للتيارات الإسلامية إلى السلطة أو التفرد بها، وإطالة فترة التحول الديموقراطي في مصر وتونس. تسويق الديموقراطية أخيراً، يطرح المؤلف سؤالاً منهجياً بالغ الأهمية: ماذا لو تعارضت الثورات العربية مع أهداف الولاياتالمتحدة وإستراتيجيتها في منطقة الشرق الأوسط؟ ما يحرك الدول الكبرى مصالحها الاستراتيجية وليس مبادؤها الانسانية التي تنادي بها. والولاياتالمتحدة غير جادة في تسويق الديموقراطية وحقوق الانسان في العالم العربي. وتبخر الحلم الذي راود بعض قادة الانتفاضات العربية لنشر الديموقراطية بدعم أميركي. فتاريخ الولاياتالمتحدة حافل بدعم القوى الديكتاتورية على إمتداد العالم العربي. وتبنى الأميركيون مخططات جديدة في منطقة الشرق الأوسط تلغي تقسيمات سايكس ? بيكو القديمة. وهي تقسم مصر إلى أربع دويلات، كذلك السودان. وتقسم شبه الجزيرة العربية إلى دويلات قبلية وطائفية، والعراق إلى ثلاث دويلات، وسورية إلى أربع دويلات، ولبنان إلى ثلاث دويلات مع بيروت مدينة دولية مفتوحة وكانتونات صغيرة، وحذف فلسطين عن الخريطة، وتقسيم تركيا لإقامة الدولة الكردية، وتقسيم إيران وباكستان وأفغانستان إلى عشر دول. ختاماً، في مواجهة نظرية"الفوضى الخلاقة"،لا بد للعرب من تعزيز الديموقراطية في الفكر والممارسة على إمتداد الوطن العربي، وتحقيق التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة، والإستقلال الوطني. ويتساءل المؤلف بحق في نهاية كتابه: هل تؤدي الانتفاضات العربية إلى الصحوة العربية المنتظرة؟