منذ سن اليفاعة ومباشرتي الانخراط في الوسط الأدبي باعتباري من ناشئة الأدب أواخر خمسينات القرن الماضي كنت اسمع باسم فؤاد الكعبازي باعتباره قامة من قامات الإبداع الأدبي والفني، و كان آنذاك ناظراً للمواصلات في حكومة ولاية طرابلس، ورئيساً لمجلس الإذاعة الليبية، التي اسست علي يديه. ثم مع مرور السنين تعرفت اليه وصرت قريباً منه، وكنت افرح كلما تولى منصباً وزارياً، فقد تم تعيننه ولمدة ثلاث فترات وزيراً للنفط، وتولى وزارات وسفارات اخرى، حتى جاء انقلاب القذافي ليبدأ بسجنه بضع سنوات، من دون سبب الا لأنه كان من اعمدة العهد الملكي، وينتهي بتعيينه سفيراً لليبيا في دولة الفاتيكان بعد ان سمع القذافي ثناء الإيطالييين عليه، وإعجابهم بدراساته عن الأديان التي تنشر في المجلات الإيطالية، ثم اعجاب البابا شخصياً بالترجمة لمعاني القرآن التي انجزها هذا النابغة الذي توفي في طرابلس قبل ايام عن عمر يناهز اثنتين وتسعين سنة. المثقف العصامي يمثل ابن طرابلس فؤاد الكعبازي واحداً من جيل العصاميين الذين عرفتهم ليبيا، في عهد غاب فيه التعليم النظامي، وغابت فيه الجامعات، ومع ذلك كان في تعليمه اشبه بعباقرة الفكر العربي الذين التقطوا علومهم عن طريق الشيوخ والكتب والسفر والذهاب الى العلم في الأمصار البعيدة. درس الكعبازي الهندسة وصمم صروحاً كثيرة في ليبيا وهو رائد رياضي ومؤسس لعدد من الأندية. وهو فنان مسرحي وسينمائي، ساهم في اعمال كثيرة مسرحية وسينمائية بينها افلام عالمية شارك في انجازها. وهو رسام له لوحات، و عالم في الدين واللاهوت له ابحاث، في كبريات الدوريات الإيطالية المتخصصة. وهو عالم في اللغات وترجم معاني القرآن، الى الإيطالية والإنكليزية والفرنسية والتركية، قد كتب بالإيطالية ديواناً من الشعر وديوانا بالإنكليزية اكتفى بنشر قصائده في الصحف دون ان يهتم بنشرها في كتاب. وقد طالعت هذا الديوان شخصياً. وهو على علم بالموسيقى ويجيد العزف وتأليف القطع الكلاسيكية الصامتة، وعندما تسلم وزارات مثل المواصلات والنفط وضع الأسس السليمة لإدارة ناجحة. نال الكعبازي اعتراف العالم بأعماله الفنية، فهو شيد لليييا كثيراً من الصروح، من بينها تصميمه للميناء عند توسيعه وتجديده، و ساهم في تصميم بعض الجامعات وبينها جامعة محمد علي السنوسي الإسلامية، وفي انشاء المبنى الجديد لمدرسة الفنون والصنائع الإسلامية. ونال الجوائز العالمية لتصميمه طوابع بريد ليبية، واستغل سنوات سجنه فسجل اشهر معالم طرابلس في رسوم نشر بعضها عن طريق مؤسسة ليبية. لكن مخطوطات كثيرة له، ظلت كما يقول في دار الجماهيرية تنتظر النشر حتى انتهى حالها كما انتهى نظام القذافي نفسه. وحق على ليبيا الجديدة ان تبحث عن انتاجه الأدبي والفني الذي يمثل جزءاً من الذاكرة الفنية والأدبية للبلاد وتهتم بنشره. ورغم ان اناساً كثيرين ذهبوا الى الطاغية في بداية انقلابه الذي عصف بالحياة البرلمانية الدستورية الملكية في الأول من سبتمبرأيلول 1969، ليذكروه بمآثر هذا الرجل على بلاده ليبيا، وعلى صناعة النفط، ويذكروه بورعه وتقواه ونزاهته، فقد ابقاه القذافي بضع سنين في السجن بلا محاكمة، وكان اعتكف بعد سجنه في بيته فأنجز ترجمة معاني القرآن الى الإيطالية، الذي بدأه مع زميل له هو المرحوم عبد الرحمن العجيلي، وقد توفاه الله في بداية العمل، فأكمله الكعبازي. وتفرغ لأعماله الأدبية التي كان ينشرها في مجلات ايطالية عن العلاقات بين الأديان بسبب معرفته العميقة بالدين الإسلامي والدين المسيحي. مخطوطات مجهولة درس الكعبازي في الكتّاب، وأكمل حفظ نصف القرآن، والتحق بعائلة امه في اسطنبول، وعندما عاد فتى يافعاً ادخله والده الى معهد انشاته مؤسسة دينية عالمية، ذات فروع في كثير من عواصم العالم، اسمها مؤسسة الرهبان. وبسبب تفوقه في الدراسة تمكن بقرار استتنائي بالالتحاق بمدرسة فنية ايطالية اسمها ماركوني، لأن الليبيين في ذلك الوقت، كان محرماً عليهم الالتحاق بمدارس ما فوق الابتدائي. واستطاع بعد انتهاء العهد الإيطالي ان يلتحق بمعهد بولي تاكنيك في لندن ليتأهل مهندساً، وليساهم في الحراك السياسي في الأربعينات. وأنشأ مجلة مع صديقه مصطفى العجيلي، هي مجلة"المرآة"، وساهم في انشاء النقابات العمالية والفرق المسرحية. وعندما بدأت دولة الاستقلال، كان من العناصر المؤهلة، التي انخرطت في البناء، ناظراً وإدارياً، من دون ان يتخلى عن هواياته الفنية، فكان وراء انتاج افلام وثائقية،عن آثار طرابلس وليبيا عموماً، وعن غدامس جوهرة الصحراء. وساهم في تصميم المناظر لفيلم"الخيمة السوداء"بطولة صوفيا لورين وجون وين، وفيلم"الطريق الى تومبكتو"عدا تأسيسه للإذاعة الليبية وكتابته برامج لها، وكتابته في صحف ذلك الزمان مثل صحيفة"الرائد"التي نشر فيها كتابه"ألحان من الشرق على اوتار من الغرب"الذي اصدره له في كتاب صديقه الكاتب جورج رجي في لبنان. وربطته علاقات بالشاعر سعيد عقل الذي دعاه اكثر من مرة الى القاء شعره في منتديات طرابس الأدبية، وهذا ما فعله مع صديق آخر كان يلتقيه في لبنان هو نزار قباني. وله كتاب ثان بعنوان"قراءات في الشعر العالمي". وقد اطلعني في بيته على عدد من المخطوطات بينها ما يتصل بتاريخ طرابلس اعطاها لدار حكومية كانت تحتكر النشر في تلك الأيام فلم تنشرها ربما بسبب الحظر على انتاجه لانتسابه الى العهد المباد كما كان القذافي يسمي العهد الملكي، وبقى في دائرة الاستبعاد لأكثر من ثلاثين عاماً. وفي 1998 اراد القذافي، وقد بدأ يسعى الى فك الحصار الغربي عن نظامه باحثاً عن وجوه ليبية تستطيع تقديم الجانب الحضاري الذي يستطيع ان يمسح عنه الوجه الدموي الإجرامي، فتذكر ما يحظى به فؤاد الكعبازي من مكانة في المجتمع الإيطالي والمؤسسات العلمية، فقرر ان يقلده منصب سفير لييبا لدى دولة الفاتيكان، وكان على مشارف الثمانين من عمره. وكان الصديق الشاعر والصحافي احمد فرحات زار ليبيا في مطلع ثمانينات القرن الماضي لإجراء حوارات مع رموز الثقافة فالتقيت به في حال من الذهول بعد لقائه الكعبازي، فهو وجد فيه، كما قال، رجلاً شمولي الثقافة، يتحدث بعرفة وعمق في مجالات الأدب والفن والتراث والعلم حديث المتخصصين العارفين.