نادراً ما ابتسم القدر لتركيا تلك الابتسامة العريضة. فبعد عقد طغت عليه سمة التقدم التركي على جميع الأصعدة، يكاد الأتراك لا يسمعون إلا الأصوات التي تثني على شرعية انتخاباتهم، وحيوية اقتصادهم ونجاحهم في كبح النزاعات التي تفتك بالمنطقة، ألا وهي السلطوية والإسلام السياسي والقومية العرقية وسيطرة العسكر. قلة هم من يستكثرون على الأتراك أضواء الشهرة الدولية التي سلطت عليهم بعد رحلة غالباً ما كانت قاتمة في القرن العشرين. إلا أن حول مائدة العشاء التركية والتي عادة ما تشبه المحفل الذي يدور خلاله النقاش في شأن"حالة البلاد"، بدأ المتشائمون يشعرون بأن حقبة المجد التي يعيشونها قد شارفت على الانتهاء. إذ بدأت حدود تركياالشرقية تشعر بغليان منطقة الشرق الأوسط. وهي المنطقة ذاتها التي بدت وكأنها كتاب مفتوح أمام أنقرة في العقد الماضي، عندما اتبعت سياسة عرفت بالصدفة بسياسة"تصفير المشاكل"المستندة إلى التعامل مع جميع الجيران على قدم المساواة، وإلى إرساء الأمن والرخاء في منطقة الجوار من خلال السماح بالسفر من دون تأشيرة، وابرام اتفاقيات التجارة الحرة، وعقد اجتماعات سياسية رفيعة المستوى، ودمج البنية التحتية للمنطقة كخطوط الغاز والكهرباء والطرق وخطوط السكك الحديدة. إلا أنها الآن اضطرت لوضع تلك المقاربة جانبا لمواجهة المنطقة المتفجرة. لنبدأ بالعراق حيث لم توفر تركيا أي جهد لبناء علاقات متساوية مع جميع الفصائل العراقية، إلا أن تلك الجهود ذهبت سدى بعد أن راهنت تركيا على الفرس الخاسر في الانتخابات العراقية الأخيرة التي أنجبت حكومة تميل إلى طهرانودمشق. أما تعاونها الاستثنائي مع إيران فقد تحول إلى تنافس على النفوذ في العالم العربي، مما يعزز النظرة إليهما كدولتين يدفعهما الانتماء المذهبي الى حماية السنّة أو الشيعة. ناهيك عن موقفهما المتناقض في شأن درع الاطلسي المضاد للصواريخ. وفور اندلاع ثورة مصر، سارعت تركيا إلى الوقوف إلى جانب المصريين في ساحة التحرير مما قربها ورئيس وزرائها اردوغان من الشعب المصري. إلا أن المصريين صرحوا بأن النموذج المصري سيكون نموذجاً مصرياً وليس تركياً. ولا يخفى على أحد خوف المسؤولين والمثقفين المصريين من أن يسلبهم"الأخ الأكبر"دورهم القيادي في العالم العربي. وفي ما يتعلق بعلاقاتها مع إسرائيل، فقد استبدلت تركيا التعاون العسكري والتفاعل الاستراتيجي معها خلال العقد الماضي بالتصريحات التصادمية ضد سياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين. ومن بين فصول دراما الصحوة العربية، يشكل فصل سورية الذي لم يصل إلى خاتمته بعد التحدي الأكبر لتركيا. إذ تحولت أنقرة من كونها أفضل أصدقاء دمشق إلى طرف في الحرب ضدها، لا سيما بعد تبنيها المعارضة والمنشقين عن الجيش السوري. وتجد أنقرة نفسها عالقة في شبكة من الضغوط والإغراءات التي تدفع باتجاه التدخل العسكري. إلا أن أي خطوة من هذا القبيل ستقوض سمعتها كوسيط محايد في العالم العربي، وستورطها في حرب أهلية في سورية وفي صراع مباشر مع القوى الأخرى، ولا سيما ايران. وفي ما يتعلق بتطلعاتها إلى عضوية النادي الأوروبي، بدأت آمالها بالتلاشي. حيث أن التقارب بين تركيا والاتحاد الأوروبي، والذي أبهر المنطقة لدى انطلاقه، قد بدأ بالتراجع بسبب تعثر المفاوضات على العضوية الأوروبية. تنظر تركيا إلى دول الاتحاد الاوروبي على أنها عدائية وغارقة في مستنقع منطقة اليورو، فيما تنظر بروكسيل باستنكار الى تدهور سجل حقوق الإنسان في تركيا، وزج عشرات الصحافيين ومئات المعارضين الأكراد وراء القضبان. إلا أن الاتحاد الأوروبي يظل شريكاً غاية في الأهمية بالنسبة الى تركيا، كما تشكل الاستثمارات الأوروبية ثلاثة أرباع الاستثمارات الأجنبية المباشرة فيها، ناهيك عن التبادلات الثقافية. إن من شأن عودة تركيا والاتحاد الأوروبي إلى التعاون الكامل، وهو ما يعني تخطي المشكلة الرئيسية المتمثلة في قبرص، تشكيل جبهة أقوى لمواجهة مخاطر الشرق الأوسط. تركيا من خلال هيبتها وهويتها الإسلامية وحيوية اقتصادها، وأوروبا من خلال وزنها وخبرتها في مجال مساعدة الدول في عملية الانتقال. وفي حين أن تركيا والاتحاد الأوروبي قد يختلفان في الأساليب، إلا أنهما يتشاطران الأهداف الرئيسية المتمثلة في تحويل منطقة الشرق الأوسط وإلى شبكة مترابطة من دول أكثر فاعلية وازدهاراً واستقراراً. * مدير برنامج تركياوقبرص في"مجموعة الأزمات الدولية"