منذ بداية الحراك يدخل الربيع العربي في أزمات عدة، فهل يمكن أن يكون الدرس الديموقراطي السنغالي من عمق القارة السمراء مادة للتشبّه؟ السنغال دولة في غرب أفريقيا تتسم بتعددية عرقية ولغوية ودينية، فالمجتمع السنغالي ذو بنية اجتماعية متنوعة اللغات والأجناس مع اختلاف معتقداتهم الدينية، إلا أن هذه الاختلافات لم تمنع تحقيق المصلحة الوطنية للجمهورية السنغالية، بعيداً من حسابات السياسيين كما هي حال بعض الدول العربية. درس ديموقراطي، أو بالأصح منجز تاريخي، تمكن السنغاليون من تحقيقه في غضون الشهرين الماضيين، ومن دون ربيع كالذي عاشته تونس ومصر واليمن، ولا تدخل أجنبي كما كانت حال ليبيا، ولا حرب أهلية وجلسات للأمم المتحدة ومؤتمرات صديقة، كالتي يعيش على إيقاعها الشعب السوري. تمكنت قيم المواطنة من غرس جذورها في التربة السنغالية، بعدما تنسم السنغاليون نسائم الحرية إبان خروج المستعمر الفرنسي، فصاروا من أشرس من يذود عن هذه النسائم. ففي قارة تعاني من العنف العرقي والسياسي الذي يكون ملاذاً لحل كل الخلافات، ما انفكت السنغال تقدم نموذجاً متفرداً من زاوية إيجابية، عكس السائد في القارة. شرع النظام الحاكم ? بعد فترة ما بعد الاستقلال المضطربة ? ابتداء من السبعينات بالتحرر تدريجاً على المستويين السياسي والاقتصادي، بقيادة الرئيس الشاعر ليوبولد سيدار سنغور، فقد وجدت التعددية الحزبية فضاءات حرة مكنت عبدو ضيوف من تقديم نفسه كزعيم للمعارضة وقوة بديلة ذات صدقية. تخلى سنغور، الرئيس الشاعر، عن السلطة سنة 1980 قبل انتهاء فترة ولايته، فتولى زعيم المعارضة عبدو ضيوف الحكم في البلاد لعقدين من الزمن، تخللتهما فترات متناوبة من الانفتاح الديموقراطي البطيء. تخلى عبدو ضيوف بدوره سنة 2000 عن منصبه لخصمه القديم عبدالله واد، في ما وُصف آنذاك بواحدة من أولى الانتخابات الحرة والنزيهة في غرب أفريقيا. لقد مكنت هذه الانتخابات السنغاليين من تقديم درس في"الديموقراطية الناشئة"، في وقت كانت ساحل العاج تغرق في أزمة ما بعد هوفويت بوانيي. قرر عبدالله واد القطع مع هذا المسار الديموقراطي، بخوضه غمار الانتخابات لولاية ثالثة، متحدياً القواعد الديموقراطية استعداداً لتوريث ابنه. غير أن إرادة الشعب السنغالي كانت أقوى منه حين منحت أصواتها لرئيس الوزراء الأسبق ماكي سال، في عرس ديموقراطي متفرد قادته جبهة عريضة تضم كل أطياف المعارضة ليبراليون، اشتراكيون وماركسيون ومكونات المجتمع المدني، أطلقت على نفسها اسم حركة 23 حزيران يونيو، وضمت كل المرشحين الذين انهزموا في الدورة الأولى من الرئاسيات، والذين دعوا للتصويت لماكي سال ضد عبدالله واد.? جبهة وفقت في إنجاح هذا الدرس الديموقراطي الناشئ، أمام أعين جارتها الشمالية مالي التي تغرق في إحدى حلقات المسلسل الانقلابي الأفريقي ذي المصير المجهول. هذه الديموقراطية الناشئة كانت وراء بقاء السنغال من الدول القليلة في القارة السمراء ولم تعرف في تاريخها انقلاباً عسكرياً واحداً. هي ذاتها التي أتاحت هامشاً كبيراً من حرية التعبير وجعلت البلد يفتخر بصحفه المستقلة والساخرة، التي بوأته المرتبة 47 في حرية الصحافة وفقا لتصنيف منظمة"مراسلون بلا حدود". إن مقومات نجاح التجربة السياسية السنغالية ذاتية بامتياز قياساً بتجارب جيرانها"الفاشلة"موريتانياوساحل العاجومالي وكينيا القائمة على القهر والاستبداد والقمع ومصادرة الحريات والاستئثار بالسلطة وتغييب مشاريع التنمية. تجربة أحاطت نفسها بقيم الحرية والتحرر واحترام الخصوصيات والتنوع الذي يعرفه المجتمع السنغالي بغية ضمان نجاحها. تجربة حرص روادها على توظيف العوامل الداخلية لمصلحة بناء دولة مدنية ديموقراطية قائمة على إحقاق مواطنة كاملة لمختلف مكونات المجتمع السنغالي لا لخدمة مصالح أقلية معينة. ومكّن حسن توظيف هذه الخصوصيات الشعب السنغالي من تجاوز بعض الحواجز قضايا الإثنية والهوية والجهوية التي لا تزال تنخر النسيج الاجتماعي لدول غرب أفريقيا. هذا من دون تجاوز معطى جوهري عزز هذه التجربة يكمن في حياد المؤسسة العسكرية عن السجال السياسي، حيث ظلت تمارس وظائفها الدستورية رافعة شعار الشعب مصدر كل السلطات. لا شك في أن دولة السنغال ليس بالنموذج المثالي للديموقراطية، فكل ما سلف لا يعدو أن يكون الحصة الأولى من سلسلة دروس الديموقراطية الطويلة الأمد والعسيرة المخاض التي تنتظر السنغاليين حكومة وشعباً. بيد أن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة كما ورد في الأثر، خطوة تكشف عن تباشير نموذج رائد يلوح في الأفق تلزم فقط مواكبته بما يضمن له الاستمرارية من جهة، ومن جهة أخرى ينبغي الاهتمام بالجانب الاقتصادي الذي يعد أكبر ضمان لبقاء هذا المسلسل الشائك والشاق ونجاحه، فلا ريب أن إقامة قواعد تؤسس للمبادرة الحرة وتكرس الشفافية ومبادئ المنافسة تفتح أفاقاً كبيرة لانخراط البلاد في اقتصاد السوق الذي يضمن تنمية مستدامة ومواكبة لحصص الدرس الديموقراطي. * باحث مغربي، والمقال ينشر بالتعاون مع مشروع"منبر الحرية"www.minbaralhurriyya.org.