نحن اليوم في منتصف المسافة الزمنية بين مهرجانين لأفلام دول الخليج العربي، مهرجان اختتم أعماله قبل أسبوعين عقد في الدوحة، وآخر يفتتح فعاليّاته بعد اكثر من أسبوعين آخرين ويقام في دبيّ. الأول لا يزال في دورته الأولى، أما الثاني فمهرجان بات اليوم له تاريخ يحسب بالسنوات. من ناحية مبدئية، وللوهلة الأولى، من الصعب إيجاد فوارق كثيرة بين المهرجانين. بل ربما يمكن القول أيضاً إن الأفلام التي عرضت في المهرجان الأول ستكون هي نفسها تقريباً التي ستعرض في المهرجان الثاني...والضيوف سيكونون هم انفسهم على الأرجح، كما إن النقاشات سوف تكون متشابهة. ولعل الفارق الأساس يكمن في أن الأول اقتصر على أفلام دول مجلس التعاون الست المنضوية رسمياً تحت لواء هذا الكيان الخليجي الصاعد، فيما يفتح الثاني ذراعيه لبلدان"خليجية"أخرى مثل العراق واليمن. ومع هذا لا بد من الإشارة فوراً إلى أن المهرجان الذي عقد دورته الأولى في الدوحة، يبدو اكثر أهمية من الثاني بكثير على صعيد محدد، وهو انه مهرجان رسمي مدعوم مباشرة من الهيئات الثقافية وبالتالي السياسية التي ترتبط بقيادات مجلس التعاون. ومعنى هذا أن ما كان يبدو مبادرات فردية غير مضمونة في مهرجان دبيّ بات الآن مشروعاً رسمياً مدعوماً مالياً ومعنوياً من واحد من أغنى التجمعات الاقتصادية والسياسية في العالم. وهنا سيكون مفيداً أن نشير إلى أن صيغة هذا المهرجان صيغة دورية بمعنى انه سوف يقام مرة في العام ولكن في كلّ مرة في بلد آخر من بلدان مجلس التعاون. ومن المؤكد أن من شأن هذا أن يزيد من رسميته...وربما هشاشته أيضاً لكن هذا موضوع آخر لا يزال الوقت مبكراً لبحثه...المهم هنا هو أن هذا المهرجان الذي يعني دول التعاون، ولد كتتويج لحال من الوعي والاهتمام السينمائي باتت تعمّ دول الخليج ونخبها، وربما أيضاً قطاعات لا بأس بها من محبي السينما فيها، خلال السنوات الأخيرة. ولكن لئن كانت بدايات هذا الاهتمام عبر مهرجانات دبي وأبو ظبي ثم الدوحة التي صارت علامات- فاقعة أحياناً- على خريطة المهرجانات السينمائية العالمية بدايات اتسمت بالإنفاق المالي والبهرج النجومي والصخب الإعلامي والحكايات الخرافية عن جوائز وطائرات وفنادق واحتفالات...إلى آخر ما هنالك، فإن الأمور بدأت في شكل عام تعود إلى مستويات معقولة دورة بعد دورة. أما الفيصل في ذلك فكان من ناحية في ازدياد الاهتمام بالسينمات العربية، وفي قيام مؤسسات تابعة للمهرجانات الثلاثة تساند السينمائيين العرب وربما غير العرب أيضاً، وتموّل وتدعم أفلامهم...وأخيراً في هذا الاهتمام المتجدد والصحي بالسينما الخليجية نفسها بعد أن كان النقد الأساسي الموجه إلى المهرجانات الثلاثة معاً ينطلق من استغراب وجود مهرجانات سينمائية ضخمة في بلدان لا تنتج أفلاماً. رواد مبكرون من هنا إذاً، يمكن القول إن المهرجانين الخليجيين الذين نحن في صددهما يأتيان، كل على طريقته على أية حال، للإمعان في ضبط الصورة وتعديلها... ولعل هذا بدا واضحاً بالتحديد من خلال الدورة الأولى لأفلام مجلس التعاون التي عرضت في الدوحة عدداً لا بأس به من أفلام حققت في بلدان المجلس الست خلال الآونة الأخيرة...والحال إن هذه العروض، على تواضعها، إنما أتت لتقول إن السينما الخليجية باتت أمراً واقعاً: باتت سينما لها أفلامها وسجالاتها ومخاوفها ومبدعوها ونقادها والزوايا الصحافية المهتمة بها متابعة ونقداً ونقضاً أحياناً...بل اكثر من هذا: لها تاريخها ورواد هذا التاريخ أيضاً. وإذا كان يقال عادة إن تكريم مبدع ما إنما هو إحالة هذا المبدع إلى متحف الذاكرة- والنسيان بالتالي- فإن التكريمات التي أسبغت على عدد من رواد الفن السينمائي خلال مهرجان الدوحة بدت أشبه بعملية إحياء منها بعملية إقصاء متحفي. وذلك لسبب بسيط وهو أن المبدعين السينمائيين الستة الذين كرّموا، وإذا استثنينا الراحل إسماعيل العباسي من قطر، لا يزالون في شرخ الشباب والعطاء بحيث أن المتحفية ليست واردة بالنسبة اليهم. فالرائد الكويتي خالد الصديق، الذي كان صاحب أول فيلم خليجي بالمعنى الحرفي للكلمة،"بس يابحر"، يستعد وفي شكل متواصل لاستئناف حلمه السينمائي الذي تجسد للمرة الأولى قبل أربعين عاماً في هذا الفيلم الذي يعتبر دائماً واحداً من افضل عشرة أفلام عربية في تاريخ الفن السابع، والسعودي عبد الله المحيسن لا يزال حديث التأسيس للسينما الروائية السعودية بروائيّه الأول"ظلال الصمت"والذي حققه قبل سنوات وسط متن سينمائي له يضم أعمالاً وثائقية عدة من مزاياها أنها عالجت، وغالباً بتميّز فني وفكري ودائماً باستباق للأحداث، بعض القضايا الشائكة التي تمر بالعالمين العربي والإسلامي. أما المخرج العماني خالد الزدجالي - والذي كان أيضاً من بين المكّرمين إلى جانب الناقد الإماراتي مسعود أمرالله مؤسس مهرجاني أفلام الإمارات وأفلام الخليج وأحد ابرز مسؤولي مهرجان دبي والمعروف بمساهماته الأساسية في نهضة السينما في بلاده، والفنان البحريني المخضرم عبد الله السعداوي الذي يشكل وحده حالة فنية مدهشة ليس في وطنه البحرين فقط بل على الصعيد الخليجي أيضاً -، فإنه، أي خالد الزدجالي... بدا شاعراً وهو يعتلي منصة التكريم بعبء مثل هذا الموقف هو الذي لم يظهر على الساحة السينمائية في بلده، كما في الخليج في شكل عام إلا منذ سنوات قليلة مع فيلمه المميّز"البوم"الذي عرض في مهرجانات ودول كثيرة واعتبر مؤسساً للسينما العمانية وواحداً من افضل الأعمال التي تساهم في السينما الخليجية ونهضتها في شكل عام. تلفزيون/سينما مهما يكن من أمر لا بد أن نلاحظ هنا أن الزدجالي كان الوحيد من بين المكرّمين الذي شارك فيلم له في مسابقة الأفلام الروائية التي أقيمت خلال مهرجان الدوحة. والفيلم هو"يوم سعيد"الذي لا تزيد مدة عرضه عن عشرين دقيقة بالإضافة إلى انه حقق لغايات وعظية اجتماعية وللتلفزة. غير أن تأمّل هذا الفيلم يجعلنا نشعر على الفور أننا أمام سينمائيّ حقيقي...فمن سياق السيناريو إلى إدارة الممثلين إلى الحبكة إلى اللقطات وصولاً إلى إيقاع الفيلم و"خبطته"المسرحية الأخيرة ، ندرك كيف أن الزدجالي التقط فكرته ? الموصى عليها لحساب سلسلة اجتماعية تحمل توعية للمواطنين، تتعلق في هذا الفيلم بمصائب السرعة في قيادة السيارة ? ليجرّب وهو يشتغل عليها تقنيات سينمائية ومرونة في التوليف وتعاملاً مع المسافات كما لو كان في فيلم من أفلام الغرب الأميركي. أن ما نقوله هنا عن هذا الفيلم من ناحية"فرص التجريب"المتاحة اليوم أمام من يشاء من مبدعي الصورة المتحركة الخليجيين، يمكن قوله عن هؤلاء جميعاً، سواء كانت أفلامهم في أصلها أعمالاً للتلفزيون ? على شكل ريبورتاجات كما حال التحقيق الجريء والنزيه"السيدة الوردية"لشروق شاهين وسارا روغاني والذي قدم موضوعاً سجالياً فائق الأهمية عن الكنائس التي أقيمت للمسيحيين في قطر نال جائزة افضل فيلم وثائقي عن جدارة، أو فيلم"حمامة"لنجوم الغانم جائزة افضل إخراج لنفس الفئة ? أو أعمالاً سينمائية خالصة معظم الأفلام الروائية المشاركة سواء فازت بالجوائز مثل"سبيل"لخالد الحمود من الإمارات، أو لم تفز مثل"كناري"عن سيناريو للكاتب والناقد المعروف أمين صالح-...فالحال إننا، بالنسبة إلى معظم ما عرض من أفلام في مهرجان الدوحة، وربما ما سيعرض في مهرجان الخليج في دبي بعد أيام، نجد انفسنا أمام سينما بدأت تخرج، وإن بخطوات خجولة، من البدايات المتعثرة التي طالت زمنياً لتتأرجح عقوداً في مسيرة كان أسوأ ما فيها أنها مضطرة لأن تبدأ كل مرة من جديد! اليوم، مع الاعتراف الرسمي بوجود سينما خليجية، مع العودة إلى أصحاب الأفلام الأولى للقول جهاراً انهم كانوا محقين في أحلامهم وصائبين في أفلامهم، يبدو من الواضح أن ثمة ما يتحرك حقاً في عالم السينما الخليجية... حتى وإن كانت الشكوى لا تزال عامة، وعبّر عنها السينمائيون في الكواليس كما في السهرات الحلوة التي جمعتهم برهط من المهتمين والأصدقاء خلال السهرات التكريمية في الدوحة...وكذلك في المقالات والتحقيقات الصحافية التي نشرت خلال المهرجان، الشكوى من أن العوائق لا تزال قائمة والجمهور العريض لا يزال متردداً والأموال التي تنفق على الإبداع المحلي ليست شيئاً لا بالمقارنة مع الحاجات الحقيقية لهذا الإبداع، ولا ? طبعاً ? بالمقارنة مع ما ينفق في المهرجانات الخليجية الدولية على الأفلام العالمية ونجومها مع أن هذه، كما يقول سينمائي بحريني صديق"ليست في حاجة لا لأموالنا ولا لمهرجاناتنا".