لا يمكن أحداً أن ينكر أنّ الإنترنت يحكمنا اليوم في عصر التواصل عبر الشبكة العنكبوتية، وفي أحيان كثيرة إذا أردنا التواصل مع الشخص الموجود أمامنا علينا الصعود إلى القمر الاصطناعي أولاً للتمكّن بعدها من الهبوط أمامه في الشاشة التي بين يديه، صغيرةً كانت مثل هاتف محمول أو كبيرة مثل حاسوب محمول. لكن قبل الصعود والهبوط لا بد من شرط أساسي هو أن نكون"أونلاين"! هذا هو بيت القصيد وهذا هو عنوان المسرحية الأولى التي كتبتها وقامت بإخراجها جوزيان بولس فقدّمتها على خشبة مسرح مونو في بيروت، وشاركت أيضاً في التمثيل بطلةً، إلى جانبها مايك أيفازيان، شاكر بو عبدالله، Clement Vieu، وروزين سعد. قصّة المسرحية تعكس واقعنا بشكلٍ حقيقي وسلس من خلال يوميات إمرأة تعيش وحيدةً مع كل العالم!"نانو"إمرأة تعيش مُحاطة بوسائل الاتصال والتواصل الحديثة من هاتف خليوي وهاتف ثابت بالإضافة طبعاً إلى كومبيوتر موصول إلى شبكة الإنترنت هو أول شيء تتوجّه إليه عند وصولها إلى البيت وآخر شيء تتعاطى معه قبل خلودها إلى النوم."نانو"تتحدّث من داخل بيتها مع رامي الذي تربطها به علاقة"صداقة مع منافع خاصّة"، وفي الوقت نفسه مع ألان الذي تعرّفت اليه وأعجِبا ببعضهما قبل عودته إلى دبي، ومع توماس الفرنسي الذي كانت تطمح إلى الزواج به طمعاً بالحصول على الجنسية الفرنسية، ومع صديقتها لميا التي تنصحها بما عليها أن تفعل. هذا التداخل والتشابك بين الجميع يشبه تماماً ما يحصل على شبكة الإنترنت حيث يمكن أي حديث أن يتوقّف، فيُفتَح حديث آخر يسأل أو يستفسر عن بعض النقاط التي يمكن أن تفيد في الحديث الأول، ثمّ يُقطَع الحديث الثاني فجأة بعد ان تنتهي فائدته المباشرة للعودة إلى حيث توقّف الكلام مع الأول! أبرز نقاط القوة في هذه المسرحية هو إيقاعها السريع الذي يشبه إيقاع حياة الإنترنت، حيث تولد العلاقات في لحظة وتموت بعد لحظة، حيث تغيّر منطق اللياقة المتعارف عليها في التواصل المباشر وجهاً لوجه. عبر الإنترنت، يستطيع المرء أن يطرح سؤالاً على شخص آخر، من دون أن يحيّيه أولاً، وبعد الحصول على مراده يقول:"لا تلهيني فأنا مشغول الآن"، كل هذا من دون أن ينزعج ذلك الشخص الآخر ومن دون أن يشعر أنّه تمّ استغلاله! قوانين جديدة، غير منطقية، غير مهذّبة قياساً إلى ما كنّا نعرفه قبل ثورة الإنترنت، صارت سائدة وباتت تفرض نفسها على الجميع، سواء أعجبهم ذلك أو لم يعجبهم. قوانين تسلّط جوزيان بولس الأضواء عليها، تعرضها أمام الجمهور، تعكس له صورته وتفضح أفعالاً يقوم بها، عن وعي أو لا وعي، من دون أن تعظه أو أن تقول:"يجب أن نتوقّف عن فعل هذه الأمور"، بل على العكس تستعمل بشكلٍ عادي وطبيعي كل وسائل التطور التكنولوجي وتترك للمُشاهد أن يلاحظ نوعية العلاقات التي يعيشها كي يأخذ بعد ذلك القرار الذي يناسبه. إخراجياً، استطاعت جوزيان إدخال الجمهور إلى داخل شاشة الكومبيوتر الخاص بها من خلال شاشة كبيرة على المسرح تكتب عليها أبرز الجمل في الأحاديث أو تنقل الرسوم الصغيرة emoticons التي صارت أشبه بكلمات واضحة يتم التعبير من خلالها في"الدردشة"، بل أصبحت في أماكن كثيرة أبلغ من الكلام الواضح نفسه! وجه سعيد، وجه حزين، وجه ضاحك، وجه يمدّ لسانه ممازحاً، قلب، وردة، قبلة... ذهبت جوزيان بولس في هذا العالم الافتراضي الذي نعيش فيه ونتعايش معه حتّى النهاية، فأدخلت الجمهور في لعبةٍ هو فيها أصلاً. في عالم الإنترنت قليلاً ما يأخذ أحد قراراً وحده، بل يستشير كل معارفه عبر صفحات"الفايسبوك"، حتّى يصل الأمر أحياناً إلى القيام باستفتاء للرأي. نهاية المسرحية أرادتها الكاتبة والمخرجة أن تكون وفقاً لما يطلبه المشاهدون. هل تجتمع"نانو"مع ألان فتكون النهاية سعيدة أم يفترقان مع نهاية حزينة؟ التصويت يتمّ عبر رسوم وُزِّعَت على الجمهور أثناء دخوله إلى الصالة: وجه سعيد أصفر لنهاية سعيدة، أو وجه حزين أحمر لنهاية حزينة... لعبة تفاعلية ذكية تُدخِل الجمهور أكثر في أجواء العرض وتدفعه إلى التساؤل عند خروجه: هل يجب أن أكون سعيداً لأنني استمتعت بالعرض أو حزيناً لواقعٍ فضحه العرض؟