أطاحت الازمة المالية العالمية التوازنات الموروثة من الحرب العالمية الثانية. وعلى رغم أن العاصفة لم تنحسر بعد، ترتسم معالم موازين القوى الجديدة. والمؤشرات الى الموازين هذه تخالف تلك التي تتوقع أفول القوى الكبرى. وبرز شقاق كبير بين العالم الأنغلو-أميركي وأوروبا القارية. ففي 1929، كانت الولاياتالمتحدة بؤرة الأزمة. وبادرت إلى إنقاذ نفسها على حساب الدول الأخرى، واستقطبت الادخارات العالمية واستفادت منها. واللافت هو التباين بين حجم اليونان في الاقتصاد العالمي 0.4 في المئة من الناتج المحلي وبين انشغال وسائل الإعلام الأنغلو-ساكسونية بها. واختزال احوال منطقة اليورو بأحوال اليونان المضطربة اقتصادياً أضعَفَ المصارف الاوروبية، إثر عزوف رؤوس الاموال عن الاستثمار في اسواقها وتوجهها الى سندات الخزينة الاميركية او البريطانية، في وقت بادر الاحتياطي الفيديرالي الاميركي وبنك انكلترا الى ضخ السيولة في الاسواق لامتصاص العجز العام. وسياسة الإشراف الحكومي الاميركي المالية دفعت التوتر عن معدلات الفوائد وساهمت في كبح تضخم معدلات البطالة في الولاياتالمتحدة. لكن السياسة هذه لم تُرسِ اصلاحات فعلية، ولا يزال المجتمع الأميركي منقسماً في الرأي على سبل تقليص العجز والنتائج المترتبة على مراكمة قوى خارجية -مثل الصين والدول النفطية- الدولارات، والمشكلات هذه تهدد الاقتصاد العالمي. مضت أوروبا قدماً ولم تبق على ما كانت في 1929، فهي قطعت شوطاً كبيراً في تنسيق سياساتها المالية، ففي الأزمة الكبرى، انتهجت الدول الأوروبية سياسات متناقضة. ويومها على سبيل المثل، سعت فرنسا الى الحؤول دون انهيار عملتها، وأغلقت ألمانيا الحدود، ونددت بالدين الخارجي. وعلى خلاف ما كانت حالها في السابق، أرست أوروبا هيئات تجعل الدين الاوروبي مشتركاً، وبدأت الدول تذليل مشكلاتها، وغيّر المصرف الاوروبي المركزي استراتيجيته على ما اقتضت التغيرات والاحوال الطارئة. وأزمة اليورو حملت الدول المؤسسة لمنطقة اليورو على إدراك القواسم المشتركة بينها. فرجحت كفة توحيد معايير الانتاج وتنسيق الموازنات بين دول منطقة اليورو، والقبول بالتوازنات التجارية والاقتصادية. وعلى رغم ان مصالح القوى الساعية إلى فرط عقدها كبيرة، ارتقت منطقة اليورو، ربان القارة الاوروبية. وفي الماضي، سارت أوروبا البروكسيلية مقر الاتحاد الأوروبي على النهج الأنغلو-ساكسوني، ويرجح أن تستند أوروبا المستقبلية إلى القانون القاري الأوروبي المتحدر من المصادر القانونية الرومانية المنطقية التسلسل، والقائمة على الحالات وليس على الأصول، خلافاً للقانون الأنغلو-ساكسوني. وأسس القانون القاري اقل اضطراباً من القانون الحالي، وأوجه الشبه بينها وبين حياة الأوروبيين اليوم أكبر. وفي عالم ما بعد الأزمة، الطري العود، تضطر الدول النامية، وفي طليعتها الصين، إلى جبه الصعوبات الجديدة. وفي وقت كان الاتحاد السوفياتي يتآكل ويأفل، أبرم القادة الصينيون اتفاقاً مع الأميركيين عبَّدَ الطريق أمام تطوير شرائح كبيرة من الاقتصاد الصيني. ولا يستهان بنتائج ربط الصينيين عملتهم بالدولار، فتسعير العملة بأدنى من سعرها يقوض ربحية الاستثمارات. وكلفة ترجيح كفة التصدير على كفتي الاستيراد والاستهلاك باهظة: استغلال النازحين في الداخل، وتوسع الدين، وتوجيه رؤوس الأموال نحو مشاريع ضعيفة الريع، وتعاظم الشرخ الجغرافي والاجتماعي بين مناطق الساحل ومناطق الداخل. ولا تغفل السلطات الصينية هذه الكلفة، وتسعى إلى توجيه الاقتصاد نحو الاستهلاك الداخلي وتنويع مصادر احتياطي القطع. إن تصوير الصحافيين أوروبا على أنها تغرق، ضعيف الصلة بالواقع، ففي نحو قرن من الزمن، كانت أوروبا منقسمة على ذاتها ومتحاربة، واليوم صارت موئل الحرية في العالم ومركز الاستقرار الاقتصادي والمالي. * المدير العام ل"افيناسيار دي لا سيتي"، عن"لوفيغارو"الفرنسية، 5/12/2012، إعداد م. ن.