لا غنى لأي بلد عن صوغ رؤية محددة، وتحديد أهداف واضحة لسياسته الخارجية. ولا يستهان بأهمية أن يتمتع من يتصدى لمثل هذه المهمة بخيال واسع وقدرة على توقع سيناريوات مرنة للخطط التي يُعدّ. فإذا نجح السياسي في بلوغ أهداف سياسته الخارجية، حصد نتائج مهمة، ولكن في الوقت الذي تمر الظروف الدولية بتغيرات كبيرة، قد لا يكون يسيراً بلوغها ولا ممكناً في بعض الأحيان. مرونة الخطط تتيح تعديلها إذا دعت الحاجة، والخروج من أزمة طارئة. والحكومة التركية في علاقاتها"المميزة"مع بشار الاسد وفي علاقات العداء بينهما كانت تتحرك وفق أفق سياسي محدد وضيق. ففي المرحلة الاولى كانت تنتهج سياسة صفر مشكلات، فنسجت علاقة مميزة مع الاسد. وفي المرحلة الثانية، تركت هذا المبدأ الى رفع لواء"المعايير الانسانية والاخلاقية"، فانقلبت على حليف الأمس ووقفت ضده. ولكن في المرحلتين، اختلفت حسابات البيت عن حسابات الحقل: فالديبلوماسية التركية لم تحتسب المتغيرات الدولية والإقليمية، فانزلقت الى أزمات خانقة. وبلغت سياسة الحكومة طريقاً مسدوداً في الأزمة السورية، ولم يبق أمامها سوى ان تلجأ الى قوة الخيال لابتكار حلول مرنة من أجل الخروج من المأزق. ومن رحم هذه المحاولات ولدت الخطة التي اقترحها رئيس الوزراء، رجب طيب أردوغان، على الرئيس الايراني، محمود أحمدي نجاد، في العاصمة الاذرية، باكو. وعلى خلاف المنتظر، وجدت المبادرة أصداء طيبة وإجماعاً. وحين خرج أردوغان من اللقاء وأعلن ما دار فيه، برزت مؤشرات بين السطور إلى تغيُّر - ولو طفيف - في سياسة تركيا إزاء الأزمة السورية. وجليّ أن الفيتو الروسي في مجلس الأمن والذي حال دون صدور أي قرار أممي، وأن السياسة الإيرانية في المنطقة والتي شلّت يد تركيا وقدرتها على طرح أي مبادرة إقليمية، حملا أنقرة على تغيير سياستها والتراجع عن موقفها في المسألة السورية. لذا، أعلن أردوغان آلية سياسية ثلاثية جديدة تقسم العمل ثلاث مجموعات، وتشارك تركيا فيها: مجموعة تجمع تركياوإيران وروسيا، ومجموعة تركياوإيران ومصر، ومجموعة ثالثة تضم تركيا ومصر والسعودية. وتسعى هذه المجموعات الى عقد اجتماعات متكررة للبحث في مخرج للأزمة السورية. ووفق ما قاله اردوغان، الحلقة الأصعب هي إقناع ايران والسعودية بالجلوس الى طاولة حوار واحدة، في وقت يبدو أن تركياوإيران وروسيا تجاوزت تحفظاتها وصارت مستعدة للحوار حول المسألة السورية. خلاصة القول إن مسؤولية حل القضية السورية، انتقلت من المحفل الدولي والأمم المتحدة الى القوى الإقليمية التي أخذتها على عاتقها، وهي تتحمل تبعات استمرارها. ومشاركة إيران وروسيا في طاولة الحوار هي صنو مشاركة الأسد بالإنابة، وقد يتعثر المخطط التركي بالعلاقة الإيرانية - السعودية المتوترة، لكن سياسة أنقرة في محلها. فهي خرجت بفكرة جديدة ومسار جديد من أجل الخروج من الطريق المسدود. وقد ينظر الى الاقتراح التركي الجديد على أنه خطوة الى وراء وتراجع عن الموقف التركي السابق، ولكن إذا نجحت أنقرة في تفعيل الآلية الجديدة، برزت مجدداً لاعباً محورياً في حل الأزمة السورية. * معلّق وكاتب، عن"ملييت"التركية، 20/1//2012، اعداد يوسف الشريف