يستذكر حميد نادر محمد كيف أغرم بالراديو"من النظرة الأولى"، في مقهى شعبي، قبل أكثر من 60 سنة جمع خلالها آلاف أجهزة الراديو وملايين قطع الغيار في مخزنه بمنطقة الميدان التاريخية وسط بغداد. ويقول محمد 72 سنة فيما يتفقد من خلف نظارتيه السميكتين عشرات الراديوات وقطع الغيار المحيطة به في غرفة صغيرة، إنه في منتصف الأربعينات من القرن العشرين رافق والده إلى مقهى حيث جاؤوا براديو كبير:"بدأ الناس يسألون كيف يعمل هذا الجهاز، فقال أحدهم إن شيطاناً في داخله، وقال آخر إن فيه رجلاً صغيراً!". ويتابع بابتسامة عريضة:"هكذا كانت عقلية الناس البسطاء آنذاك، وهكذا أحببت الراديو". وتحتل الراديوات القديمة التي يكسوها الغبار أرجاء"المستشفى"، كما يسمي الرجل ورشته. ففي المبنى القديم المؤلف من ثلاث طبقات، في آخر شارع تباع فيه المقتنيات العتيقة، تتوزع الأجهزة على طول الدرج المؤدي الى الطابق الاول، ثم تتمدد على مساحة الشقة الصغيرة يخترقها ممر ضيق للعابرين بينها. وينسحب الأمر ذاته على غرف الطابقين الآخرين حيث تتوزع الراديوات من الأحجام كافة، خشبية وحديدية، بنّية أو مصبوغة بالأحمر والأصفر والأخضر والأزرق. وتعلم محمد تصليح الراديوات القديمة وبيعها في معهد"وايرلس وورلد"البريطاني في بغداد، أيام العهد الملكي، وأتقنه بالممارسة لدى شخص يدعى عباس بابان كان يعمل برفقة مهندس ألماني. يقول:"دخلت أولى الراديوات إلى السفارات ثم اصبحت تباع، برخصة لأشخاص معينين، ففي الحرب العالمية الثانية كان أدولف هتلر يوجه نداءات إلى العراقيين تندد بالحكم الملكي الموالي لبريطانيا... كان يقول: أيها العرب جردوا سيوفكم واركبوا خيولكم ونحن والله معكم". وكانت الراديوات تأتي من الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا وهولندا"التي أرسلت راديو فيليبس، وكان الأكثر شيوعاً يقسّط ثمنه لمن يرغب". ويخبر محمد، الأب لثلاثة أولاد، أن الراديوات انتشرت لاحقاً في المقاهي إنما بشروط:"كان يتوجب على المقهى أن يبث آيات قرانية في الصباح، ثم ينتقل إلى إذاعة لندن لمتابعة الأخبار السياسية والترفيهية"، علماً أن بعض العراقيين"كانوا يستمعون سراً إلى إذاعة تبث من ألمانيا". ويضيف:"في كل مقهى كان هناك شخص يجلس إلى جانب الراديو، ومهمته، التي يتلقى مقابلها راتباً شهرياً، أن يضع أسطوانة بين الحين والآخر ويستبدلها حين تنتهي". في رواية محمد، الذي يملك مخزنه منذ الستينات، إن العراقيين كانوا"مولعين بالراديو، وحتى من لم يكن يملك المال كان يبيع حاجيات لشراء جهاز، والسؤال الدائم هو كيف تصدر هذه العلبة الصوت وتجمع العالم كله فيها". وتعرف"السيد حميد"، كما يسميه زبائنه، على شخصيات سياسية واجتماعية وثقافية بفضل عمله هذا، إضافة إلى البسطاء من عمّال وحمّالين، لافتاً إلى أنه درّب العديد من الاشخاص على المهنة. وعلى بعد نحو خمسين متراً من مبنى محمد، ينشغل كريم العقيدي 56 سنة في تصليح أحد الراديوات التي تفترش أرض شقة من أربع غرف تتوزع على جدرانها رسومات لأشخاص واماكن. ويقول العقيدي، وهو تلميذ السيد حميد:"أنا خريج كلية الفنون الجميلة - قسم الرسم، لكني اكتشفت هواية موازية في الثمانينات، وهي تصليح وترميم الراديوات التي تمثل بالنسبة إلى نافذة على الأصالة". ويضيف فيما تتصاعد الموسيقى من راديو كبير على شكل طاولة مربعة:"أصلح أجهزة قد تكون مصنّعة قبل 80 سنة، وتتراوح أسعارها بين 100 دولار و1200 دولار للراديو الواحد". ويتابع العقيدي الذي يعمل في شقته منذ 20 سنة:"هذه الراديوات تحكي تاريخ العراق". أما بالنسبة إلى السيد حميد، فالراديو بات"جزءاً من حياتي... هذا علم حقيقي قدم خدمة كبيرة للناس ولا يزال". ويضيف وهو يتحدث بفخر عن امتلاكه ثلاثة إلى أربعة آلاف جهاز راديو، وأربعة ملايين قطعة غيار:"سأبقى في هذه المهنة حتى آخر يوم في حياتي، لدي مواد احتياطية تكفيني عشر سنوات، وطالما الراديو حي، فأنا حي ايضاً".