هل نشهد إرهاصات ربيع فلسطيني أو بوادر انتفاضة فلسطينية ثالثة طال انتظارها، وقد اجتمعت كل مسبباتها كما يقول كثير من المراقبين في الشأن الفلسطيني؟. سؤال يتكرر مع حركة الاحتجاجات الفلسطينية ولو أن هذه ما زالت محدودة ومتقطعة. الانتفاضة الفلسطينية الثالثة عند حصولها لن تكون مثل الانتفاضتين السابقتين لأسباب وطنية تحريرية فقط، رغم أن هذا العنصر يبقى الأساسي بشكل مباشر وغير مباشر في مسببات أي حراك شعبي فلسطيني. فمن المسببات الأخرى التراجع الحاد في الوضع المعيشي وفي الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية بشكل عام للشعب الفلسطيني سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة في ظل حالة غير طبيعية أساساً بسبب الاحتلال. وفي هذا الصدد يذكر البنك الدولي أن الأزمة الحالية هي الأسوأ منذ قيام السلطة الفلسطينية. ومن تلك المسببات تراجع الواردات المالية للسلطة، وهي ورقة تمسكها وتلعبها إسرائيل عبر اتفاقية باريس الاقتصادية: تلعبها للضغط على السلطة حيناً عبر بنود الاتفاقية وتفسيرات خاصة لها، كما تلعبها أحياناً عبر قرارات إجرائية عقابية بشكل عام بسبب الترابط الوثيق والعضوي بين القرار الاقتصادي الإسرائيلي ووراءه القرار السياسي وإدارة وتسيير الاقتصاد الفلسطيني. في سياق هذا المسبب الأساسي في حالة التبئيس الحاصلة، تقوم الحكومة الإسرائيلية بين الحين والآخر بفتح حنفية تنفيس الاحتقان لمنع الانفجار الذي تخافه، أو تجاوباً مع ضغوطات غربية صديقة، عليها. تقوم بذلك عبر تخفيف الإجراءات الجمركية أو تحرير الأموال المحجوزة لصالح السلطة الفلسطينية أو فتح الباب على كوتا معينة من العمالة الفلسطينية للعمل في إسرائيل. وهنالك بالطبع أيضاً عنصر الاستغلال البنيوي للاحتلال الذي يسيطر على مجمل الموارد الأساسية ويتحكم بمفاصل الاقتصاد الإنتاجي الفلسطيني ويخلق عبر حالة الحصار المستمرة تشوهات هيكلية حادة في الاقتصاد الفلسطيني سواء في الضفة الغربية أو في غزة التي تبقى سجناً ذا سماء مفتوحة. أضف إلى ذلك سوء الإدارة وسلبيات ممارستها عند السلطة الفلسطينية، سواء السلطة الوطنية في الضفة الغربية أو سلطة حماس في غزة، وقد أصابتها كلها أعراض وأمراض السلطات العربية ولم تستطيع النجاة من ذلك، رغم خاصية الوضع الفلسطيني. وأكثر ما يدل على هذا الأمر ازدياد الانتقاد من مواقع وأوساط مختلفة في كل الأراضي الفلسطينية للسلطة الحاكمة. ومن مسببات الحركة الاحتجاجية الفلسطينية أيضاً الوضع السياسي بشكل عام: فما زال الانقسام الحاد بين رام اللهوغزة سيد الموقف وما زالت المصالحة الفلسطينية الموعودة في المربع الأول. يحصل ذلك في ظل لعبة تبادل الاتهامات والمسؤوليات ودخول العوامل الخارجية العربية والإقليمية والدولية على الخط، بالطبع إلى جانب المصالح التنظيمية والشخصية. ويساهم هذا في المزيد من إضعاف الموقف السياسي الفلسطيني الضعيف أساساً. كما يزيد من حالة التيئيس عند مختلف مكونات الشعب الفلسطيني من المؤسسة السياسية الفلسطينية بكل مكوناتها وخطاباتها وطروحاتها. اضف إلى ذلك غياب أي افق فعلي لمسار التسوية السياسية في"الملف الفلسطيني"وبقاء هذا الملف على الرف: رف السياسات الإقليمية والدولية في المنطقة منذ مطلع الألفية الثالثة بسبب قضايا اكثر سخونة وتأثيراً في مصالح الجميع في المنطقة. ثم انه منذ حصول الربيع العربي والأزمة السورية احتلت الأخيرة، إلى جانب الملفات الأخرى المستمرة ومنها الملف النووي الإيراني، سلم الأولويات والانشغالات في المنطقة، حتى اعتقد البعض من باب التمني أو القراءة الخاطئة أن القضية الفلسطينية دخلت غياهب النسيان. لكن عدم قدرة الفاعل الفلسطيني الذاتية على فرض القضية الفلسطينية على الأجندة الدولية والإقليمية، كونها لا تهدد بالفعل الاستقرار في المنطقة، سمح للجميع بتجاهلها. ومن الدلائل على ذلك تراجع الدعم المادي الموعود والمعتمد في السلطة الفلسطينية حتى من مجمل"الإخوة العرب"، وهو ما زاد في حدة الأزمة الاقتصادية. ومن عناصر هذه الأزمة أيضاً وجود سياسة إسرائيلية ناشطة وبشكل هجومي تدفع نحو خلق واقع جديد يلغي أي احتمال مستقبلي لتحقيق التسوية العادلة. فسياسة الاستيطان وتقطيع أواصر الضفة الغربية قائمتان وناشطتان كما أن السياسة الجديدة تقوم على طرح مشكلة اللاجئين اليهود من الدول العربية بهدف تحييد وقتل أحد أهم عناصر التسوية المستقبلية وهو عنصر اللاجئين الفلسطينيين. كل ذلك يحصل فيما يبقى الموقف العربي موقفاً إعلامياً موسمياً دون أي فعل سياسي، ما يزيد من حالة القلق واليأس والغضب التي يعيشها الشعب الفلسطيني. انسداد كلي لأفق التسوية السياسية منذ عقدين، وتآكل شرعية المؤسسة السياسية الفلسطينية في كل أطرافها في نظر الشعب الفلسطيني، وحالة تبئيس اقتصادية مستمرة دون أي افق، كلها عناصر قد تدفع لانفجار شعبي فلسطيني. وهو انفجار قد يعيد تغيير قواعد اللعبة في المنطقة وبخاصة في ما يتعلق بشأن القضية الفلسطينية، ويضعها مجدداً كقضية سياسية استراتيجية في طليعة الأولويات في المنطقة. * كاتب لبناني