بعد مخاض طويل، ولدت الثورات العربية لترسم بالتضحيات الجسام أفاقاً لمستقبل عربي جديد سمته كرامة الإنسان والعدالة والمساواة. وهذه الثورات تحاول إنتاج بديل عن الأنظمة الديكتاتورية بكل نظرياتها البائدة والمتشابهة في تسلط الحزب الواحد وطغيان الزعيم الأوحد بعد أن أثبتت الوقائع فشلها في تحقيق الحرية والديموقراطية. وبغض النظر عن نقاء الحراك الوطني للثورات العربية، إلا إن ذلك لا يمحو حقيقة الواقع الذي يدل على التشجيع الخارجي الذي كان له الدور البارز في مساعدة الثورات وتسهيل مهمتها. هذا التدخل أو الدعم الخارجي كما يصفه البعض، جاء ضمن معادلة تؤكد بأن هناك تقاطعاً في المصالح على صعيد الإستراتيجيات والقراءات والديناميات السياسية بين حراك الثورات العربية الداخلي والدول الغربية الكبرى، وبعد قراءة مستفيضة لمستقبل المنطقة العربية، وإدراك عميق مبني على التحليل المنطقي والواقعي بأن صلاحية الأنظمة العربية شارفت على الانتهاء وأن دعم الغرب للأنظمة الديكتاتورية قد يسفر عن إبطاء عجلة التغيير إلا إنه لن يوقفها، وفي هذه الحال ستلحق خسائر وأضرار في مصالح الدول الكبرى في المنطقة إذا وقفت إلى جانب الأنظمة أو إذا وقفت على الحياد. وهذا ما دفع الدول الغربية إلى الإسراع في إعادة النظر في سياساتها وخططها إزاء المنطقة لتصبح متكيفة ومواكبة ومؤازرة وحتى داعمة لانتفاضات الشارع العربي الذي أثبت من خلال انتصاراته في تونس ومصر وأخيراً في ليبيا صحة وصوابية هذه القراءة الجديدة للغرب إزاء المنطقة. وإذا كان لا يزال في العالم قوى كبرى تتردد في دعم حراك الثورات العربية لا سيما روسيا والصين فإن تطورات الربيع العربي من شأنها حسم هذا التردد لحساب الشعوب. ولعل الإرث الأفظع الذي تركته الأنظمة الديكتاتورية التي كانت متحالفة مع الغرب منذ فجر استقلال الأقطار العربية عن الاستعمار، هو سياسة"فرق تسد"التي ساهمت في إطالة أمد الاستعمار في بلداننا في الماضي القريب، وورثتها أنظمة القمع والاستبداد لإطالة أمد فترة حكمها. النتيجة الحتمية لهذه السياسات على مدار عقود طويلة، أدت إلى تدمير الوحدة الوطنية وعدم تنمية مفهوم المواطنة العابر لكل الانقسامات الفئوية والطائفية والمذهبية والمناطقية والقبلية والعائلية الضيقة. في هذا الإطار، وانسجاماً مع مسار ما بعد نجاح الثورات العربية في إسقاط الأنظمة القمعية ومخلفاتها، يتجه شباب الثورة ضمن الممارسة الديموقراطية الصحيحة، الى إيجاد ديناميكية لحراك اجتماعي في تأسيس الدول العربية الجديدة، يعزز المواطنة وثقافة الحوار وقبول الآخر كمنطلق أساسي في مسيرة التنمية بكل عناصرها الاقتصادية والبشرية والبيئية. وعلى الصعيد السياسي، لا بد للصراع أن يدور حول المفاهيم والنظم السياسية التي تسعى الأحزاب إلى تطبيقها عبر برامج عمل. أي أن يتمحور الصراع حول ما يحفظ التعددية والتنوع ضمن الوحدة الوطنية التي يجب بناؤها بعيداً عن مصادرة الرأي وحرية التعبير، بتطبيق مبادئ الديموقراطية وما يرتبط بها من مستهدفات تعيد إنتاج مكونات المجتمع العربي لمرحلة ما بعد سقوط الأنظمة الديكتاتورية. والتحدي الأبرز أمام مستقبل الثورات العربية هو في تجاوزها الصراعات الداخلية في كل قطر والمبنية على التمايز والانتماءات الطائفية والمذهبية والاثنية والتعصب القبلي. وبقدر ما تنجح في تكريس وترسيخ الهويات الوطنية القطرية العابرة لكل الانقسامات بقدر ما تتجاوز العثرات والعوائق. وبالتالي تكرس احترام المكونات الخاصة لشعوب المنطقة العربية من خلال إعلاء الهوية الوطنية الجامعة، وهذا ما يؤدي بطبيعة الحال إلى تعميم مناخ حماية أمن الإنسان العربي وحريته من أي انتهاك قد يتصل بحقوق الإنسان. التحدي صعب، خصوصاً في منطقة تفتقد إجمالاً استقرار العلاقة بين دولة جامعة ومواطنين متساوين. * كاتبة سعودية