لماذا العودة إلى موضوع بدا هامشياً منذ عقود؟ قد يكون في العودة ما يشبه المحاكمة، بعد أن تبيّن أن الشعب يقود نفسه بنفسه ولا يحتاج إلى"مثقف رسول"، وقد ترتبط ب"عودة السياسة إلى المجتمع العربي"، التي هي شرط وجود المثقف وتحقّق دوره. لا تحمل الإجابة، في شكليها، كثيراً من المعنى بمعزل عن السؤال الضروري: ما هو المثقف، وهل هو ثابت المعنى والوظيفة، أم أنه علاقة اجتماعية أوجدها سياق حديث وربطها بشروط، تعترف بالثقافة والمثقف، أو تحوّلهما إلى"كلمة كبيرة"ذات مضمون قديم؟ والجواب بسيط: المثقف إنسان متعلّم يقرأ المجتمع من وجه نظر تغييره. إن وجهة النظر، القائلة بالتغيير، هي التي تجعل المتعلّم مثقفاً، وإلا ارتد إلى موقع"الكاتب القديم"، الذي يختصر القراءة والكتابة إلى مهنة محايدة. غير أن موضوعية التعريف تقضي بتحديد أكثر دقة يقول: لا تشتق الثقافة من الثقافة، ولا ينبثق المثقف من المثقف، لأن الطرفين معاً يرتهنان إلى شرط اجتماعي، ينصر الثقافة والوعي الثقافي، أو يحكم عليهما بالزيف والتهميش. وواقع الأمر أن المثقف العربي معطى حديث، جاء مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر وصعد، مؤقتاً، إلى نهاية النصف الأول من القرن العشرين. فقبل ذلك كان هناك"كاتب السلطة"، الذي رأى في المعرفة ملكية خاصة تحتاجها السلطة، و"الشيخ التقليدي"، الذي يقرأ العلاقات جميعها من وجهة نظر دينية، تطالب بإصلاح الأرواح والاحتكام إلى"السلف". ارتبط ظهور المثقف العربي بظواهر اجتماعية وليدة، جاءت من نقد"الآخر الأوروبي"والتعلّم منه ومواجهته، مثل النزوع إلى الحرية وإعادة الاعتبار إلى العلم وتحرير المرأة، وصولاً إلى ولادة الأحزاب السياسية التي بشّرت بأيديولوجيات اجتماعية، مرجعها، الاستقلال الوطني والنهوض الاجتماعي. تمثّل الأساسي في كل هذا في أمرين غير متكافئين: ظاهرهما تنوّع الأصوات الاجتماعية، إذ لكل فريق حزبه، وجوهرهما: ولادة فضاء سياسي واعد، قوامه الحوار، يقود المثقف إلى حزبه السياسي، ويعطيه جمهوراً يثق به، سواء كان الجمهور قارئاً أو يعرف الأفكار ولا يحسن قراءتها. أنتجت علاقة الثقافة بالسياسة الوليدة، كما تعددية الأصوات الثقافية والسياسية الواعدة، مثقفين عرباً جمعوا بين التجديد المعرفي والانتباه إلى الشأن العام وحلم"هندسة المستقبل": طه حسين الليبرالي الذي انتقل من حزب الأحرار الدستوريين إلى حزب الوفد، وقسطنطين زريق القومي العربي، الذي هو أكثر من عضو حزبي وأقل من قائد مباشر، وسليم خياطه الماركسي السوري?-?اللبناني الذي ندّد بالصهيونية قبل سقوط فلسطين بسنوات ... والأمثال في هذا المجال كثيرة، فما من مثقف عربي إلا وعرف، قبل هزيمة 1967، تجربة حزبية طويلة أو قصيرة. ومع أن صديقنا اللبناني علي حرب ارتاح، من دون هواجس كثيرة، إلى تعبير"المثقف الرسولي"فإن الرسولي كان قائماً في أيديولوجيات تحررية عفوية، لم يشفع لها صدقها أمام عسف الاختبار. إذا كانت ولادة المثقف العربي، التي لم تكتمل، قد ارتبطت بعصر النهضة وحقبة مناهضة الاستعمار، وبفراغات زمنية عارضة بعد مجيء"دولة الاستقلال الوطني"، فإن هذه الأخيرة، وبنسب لامتكافئة، أقصت شروط الحوار الثقافي مهمّشة، تالياً، دور المثقف الاجتماعي، الذي لم يظفر بملامحه كاملة بعد. جاءت هذه الدولة، التي وعدت بتوسيع السماء واجتثاث التخلّف، بما جاءت به: أحادية الصوت الثقافي والسياسي، بما يجعل السلطة مثقفاً ضارياً يقف فوق المثقفين، التعويض عن الشرعية المفقودة بممالأة"المقدس"وتوسيع طرقه وأبوابه، والرقابة والتضييق على"الرغيف"، وصولاً إلى الإفقار الثقافي الشامل، الموطّد بتقويض الفضاء السياسي واستيلاد رعية جديدة. ثلاثة وجوه ما شكل المثقف في مجتمع مقيّد، تسوسه سلطة لا تعترف بالهيمنة وتعترف بالسيطرة، وكيف يلتقي المثقف النقدي بجمهوره، إن كان الحرمان من حق الكلام ينطبق على الطرفين؟ لا صعوبة كبيرة في الإجابة عن السؤال الأول، الماثلة مراياه في وجوه ثلاثة: المثقف الاحترافي، بلغة إدوارد سعيد، الذي يمتلك كماً حقيقياً من المعرفة. يبادله بالمصلحة والريع والجائزة، بعيداً عن مثقف نبيل مختص، ينصرف إلى بحثه الأكاديمي، أو يجد في الإبداع الأدبي ما يغسل روحه وروح الآخرين. يجاوره المثقف السلطوي المباشر، الذي يسوّغ ويبرّر ويراوغ مدركاً أن"شرعيته الزائفة"من السلطة التي عيّنته مثقفاً، والثالث الأكثر أهمية هو،"رقيب الأرواح والضمائر"، الذي سمح له الإفقار الاجتماعي الشامل أن يخترع أيديولوجيا دينية سلطوية، تنصّب ذاتها"علماً للعلوم"، مجابهة الاعتراض والنقد براية المقدس، الذي يقايض غالباً، المقدس الحقيقي بريع معروف. لا يحيل السؤال الثاني على تهميش المثقف النقدي، بل يحيل أولاً على تقويض الشروط الاجتماعية اللازمة للعمل الثقافي المتمثلة بحرية الكلام وحضور الجمهور الفضولي. فلا المسرح في مكانه، ولا الجامعة هي بالجامعة، والسينما المتبقية انقسمت إلى"سينما حرام وسينما حلال"، وعلى الرسّام أن يكون محتشماً ويستحسن أن يتخلّى عن الوجوه ويذهب إلى الأشياء، أما من أراد أن يتأمل معاني"النص الديني"فيقع عليه الرصاص، ولا يحميه أحد. والنتيجة لا تثير حيرة أحد: إذا كان المثقف علاقة اجتماعية، يتعرّف بغيره قبل أن يتعرّف بإنتاجه الذاتي، ويرتبط بالسياسة والمجتمع المدني، فإن توليد الرعية، الموطدة بالجماعات الأحادية الصوت، يلغي المثقف كعلاقة اجتماعية ويستبقيه كصوت مغترب. يظل المثقف النقدي هناك، فرداً مقموعاً في مجتمع مقموع، مجابهاً غربته بكتابة يتبادلها مع قلة قارئة كاتبة تتبادل النصوص، بصمت أو بشيء من الغبطة حين يكون النص بديعاً. يفسّر انتقال المثقف من وضعه كعلاقة اجتماعية إلى وضع الفرد المغترب، الذي يحاور"جمهوراً افتراضياً"، غياب دوره في التحرّك الاجتماعي العربي الراهن، دون أن يحتمل ذلك المديح أو الهجاء، بل أنه يفسّر أيضاً عفوية هذا التحرّك، الذي ينتسب إلى ما يريد أن ينتسب إليه، ويظل قريباً من"رؤى المغلوبين"، هؤلاء الذين يعرفون ما يرفضونه، وما يتمرّدون عليه، دون أن يعرفوا تماماً ما يريدونه. وقد يقال مباشرة، انطلاقاً من تربية تقليدية تعشق المراتب: إن على المثقف أن يصوّب رؤى المغلوبين، والقول لا معنى له، لأن المثقف شاهد، فلا هو بالقاضي ولا هو بالفقيه، ولأن جميع المغلوبين أيضاً قادرون على التفكير والمحاكمة، سواء طغى إحساسهم على تفكيرهم، أو وازنوا بين العنصرين، بلغة لا تبتعد كثيراً عن الإيطالي أنطونيو غرامشي. إن ما يصوّب الرؤى هو الحوار السياسي الجماعي، أو هو هاجس التنظيم السياسي والعمل على ترجمته حواراً ومساءلة وفعلاً اجتماعياً، ذلك أن الحوار المنظّم مدخل إلى المثقف الجماعي، الذي يتجاوز المثقفين الأفراد، وهو الذي يصوّب ذلك التصوّر الرومانسي الديني، الذي ينسب إلى المثقفين ما لا يستطيعون القيام به. مع ذلك فإن ما سبق يحتاج إلى تصويب يقول: إذا كان في"تضخيم"دور المثقف ما يفصح عن منظور تقليدي سلبي يرتاح إلى ثنائية: القائد والمقاد، فإن في تحريره من المطالب جميعاً ما يصرّح بفردية تجاور العدمية. فعن ماذا يكتب المثقف النقدي إذن؟ يكتب عن إعادة الاعتبار إلى السياسة من حيث هي فعل اجتماعي جماعي، وعن تأكيد السياسة المجتمعية مدخلاً تاريخياً إلى الحداثة والديموقراطية وبناء الشعب، وعن العمل الثقافي الاجتماعي الموسّع، الذي هو شرط تسييس الذين يحسنون القراءة، وهؤلاء الذين يكتفون بإصغاء ممتثل. يدافع المثقف عن ضرورة الثقافة المجتمعية، التي تعيد تأسيس السياسة، وتعيد إلى الشعب دوره الذي يقترح، في التحديد الأخير، للمثقف دوراً يقوم به. فمثلما أن ديموقراطية المجتمع، أي رصيده من الديموقراطية، هي التي تحدد أفق الديموقراطية فيه، فإن ثقافة المجتمع هي التي تحدد"خارطة الأحزاب السياسية"الناطقة باسمه. وعلى هذا، فإن أفق الحراك الشعبي العربي، الدائر اليوم، هو من أفق العلاقة الحوارية بين التسييس والتثقيف، ذلك أن"أيديولوجيا المغلوبين"، تعرف ما ترفضه ولا تدرك، دائماً، ما تريد الوصول إليه. الانتقال الكيفي ينطوي الحراك الشعبي العربي، لزوماً، على مفهوم الانتقال الكيفي، وإلا فقد معناه. وبسبب العلاقة المفترضة بين المثقف النقدي والحراك الشعبي القائم، التي يأخذ الأخير فيها موقع الأولوية، فإن على هذا المثقف أن يقوم بانتقال خاص به، ولو بقدر. إنه ليس النقد الذاتي، الذي تشتم منه رائحة اعتذار لا ضرورة له، بل أنه قراءة دور المثقف في هواء جديد حرّره نسبياً، من اليأس والعزلة والحنين إلى ماضٍ لن يعود، وحرّره من سلطة"الأفكار الكليّة". ففي زمن مضى، كأنه الأمس، سادت كلية الأفكار أو الأفكار الكلية القائلة، بصدق، بضرورة توليد الجديد، أو بعثه مكتملاً، من دون تحديد زمني أو معرفة المسافة بين المبتدأ والغاية. كان هناك الحلم الليبرالي، المحتفل بنخبة متعلّمة والساهي عن مجتمع تكتسحه الأمية، كما لمح ببراءة جبرا إبراهيم جبرا في سيرته"شارع الأميرات"، وكان هناك الحلم الاشتراكي بتصنيع الطبيعة والمجتمع والبشر، الذي سخر منه لويس عوض بوعي غير مسبوق في روايته الوحيدة"حسن مفتاح". إضافة طبعاً إلى الأيديولوجيا القومية و"جيل القدر"، التي"أطربت العقول"وتركت فلسطين ترثي وحيدة عبد القادر الحسيني، وكان هناك"الفلسطينيون المسلحون"، الذين وعدوا بتحرير شمال فلسطين في"ثلاثة أعوام لا أكثر"، كما جاء في عدد من مجلة"شؤون فلسطينية". يفضي ما سبق، وهنا الأمر الثالث، إلى: سياسة الحاجات اليومية، التي تتعامل مع المشخص والعياني والحياتي والضروري، الذي لا يحيل على"مستقبل كبير" أو على ماضٍ من ذهب قابل للاستعادة. فلا سياسة إلا بالحياتي المجزوء أو باليومي الجزئي، الذي يفصل بين السياسة و"النظريات الجاهزة"ويربطها بهؤلاء الذين سئموا استبداد الحاجات وبلاغة المستبدين. كان يقال في ما مضى: الممارسة معيار الحقيقة. هذه الممارسة، التي تدور حول حاجات البشر المادية قادرة، ربما، أو قادرة قبل غيرها، على مواجهة"الحلول الوعظية"، المشغولة بإصلاح الأرواح قبل معالجة مطالب البطون. في كل ما سبق تهوين من شأن اليقين، أو أن فيه ما يطرده طرداً متسامحاً، بقدر ما فيه دروس تدفع المثقف إلى تجديد معرفته. فهناك المثقف الذي حافظ على الأخلاقي في الأيديولوجيات المتقادمة ولم يجدّد منظوره، وهناك الذي أدرك أن تلك القسمة بين العمل اليدوي والعمل الذهني لم تعد كافية، وثالث يعرف أن تجديد إنتاج الأفكار يستلزم تجديد أدوات الإنتاج. كان فالتر بنيامين قد احتفى احتفاء كبيراً بالتقنية التي تحرر العمل الفني من هالته وتزيد من توزيعه الاجتماعي. ماذا كان سيقول لو رأى ثورة الإنترنت و"الفايسبوك"، وهؤلاء الشباب الذين أنجزوا فعلاً ثورياً إبداعياً، دون أن يستعينوا بالأيديولوجيات الكبيرة وبنصائح المثقف المختص، عضوياً كان أم تقليدياً؟ هناك، أخيراً مساهمات ثقافية مصرية، وغير مصرية، لها وجوه جديدة جديرة بالقراءة، جمعت بين التحريض والنظرية والتعليم: مساهمات رضوى عاشور وجلال أمين وعلاء الأسواني، وسينما خالد يوسف من ينسى فلمه العظيم: حين ميسرة؟ وتلك الرواية العربية البديعة التي ما زالت تقول: إن مبتدأ الحضارة والسرد والمتخيّل هو : الإنسان!! إن المثقف علاقة في مجموع، يرتقي بارتقائها، وينهض بنهوضها، وينكسر بانكسارها، ولا يرتفع فوقها إلا إذا كان نبياً، كما قال الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد.