لا يكفي الشعور بالغضب والظلم أو التطلع الى الحريات والخروج إلى الشارع والعمل المستمد من هذه الحالة إلى تحقيق الإصلاح، وثمة مخاوف حقيقية وواقعية من إجهاض الحراك الإصلاحي القائم اليوم في الدول العربية واستدراجه واختراقه لمصلحة النخب نفسها التي قادت الاستبداد والفساد والفشل. في المعيار القياسي الكمي لنجاح الإصلاح يجب أن ترحل النخب السابقة، أو معظمها، وتحل محلها نخب جديدة ومختلفة، وإذا لم يقدم الحراك الإصلاحي قيادات سياسية واجتماعية جديدة أو إذا آلت العملية الإصلاحية إلى بقاء النخب نفسها في القيادة والتوجيه، فإن الجهود والتضحيات ستذهب هباء منثوراً. ويمكن أن يفشل الحراك الإصلاحي نفسه بوجهات ومسارات يختارها او يستدرج إليها، ويمكن في هذا السياق عرض بعض الأفكار والمواقف والمسارات التي ستفشل الحراك الإصلاحي أو تؤدي به إلى الزلل والانحراف. سيفشل الحراك الإصلاحي إذا استسلم لإغواء الغوغاء وسلك في ما يظن أنه يعجب الناس ويطربهم، أو مضى نحو أهداف ومطالب تشتت الحراك، وتصرفه عن التقاط اللحظة القائمة، مهما كانت هذه المطالب صحية أو عادلة أو مقدسة، مثل التحرير والوحدة العربية والإسلامية وتطبيق الشريعة ومقاومة معاهدة وادي عربة واتفاق أوسلو، ودعم القضية الفلسطينية، وحق العودة، والتضامن مع القضايا التاريخية، وانتقاد ومواجهة الهيمنة الغربية والاحتلال والاستعمار. وإذا لم يشارك في الحراك جميع فئات المواطنين الجغرافية والمناطقية والمهنية والطبقية، ولم يكن ممثلاً في تشكيله للوطن والمواطنين بعدالة، فإنه يتحول إلى عمل فئوي، ويزيد الانقسام الداخلي والمجتمعي، ويسهّل ذلك تحريض فئة من المواطنين على فئة أخرى. وعندما تطرح التجمعات المعارضة أهدافاً متطرفة، فإنها تثير الريبة، وتشجع بذلك على الاستنتاج أنها في حقيقتها غير جادة في الإصلاح، او تعمل بوعي أو بغير وعي لأجل افتعال معارك بعيدة من الأهداف والمصالح المحركة للمعارضة. فالعنف أو التغيير بالقوة ليس مطلوباً بذاته أو لذاته، والدعوة إليه مع وجود فرص للحوار والعمل السلمي تقود الحراك إلى مواجهة غير متكافئة، وتفقده الشرعية والصدقية، والحديث في هذا السياق عن الثورة المسلحة ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين بالقوة المسلحة أو إفشال المعاهدة مع إسرائيل، يقود الحراك من المطالبة بالإصلاح إلى مواجهة مع السلطة، وتكون فيه هي الطرف الذي يتمتع بالشرعية والغطاء القانوني والأخلاقي. وجرت محاولات في الأردن لحرف الحراك الإصلاحي عن أهدافه بإشغاله بقضايا ومطالب تبدو وكأنه يصعب الرد عليها لأنها تصنف في المطالب الوطنية أو الدينية ذات الطابع المقدس، مثل إغلاق النوادي الليلية، وإطلاق سراح الدقامسة الجندي الأردني الذي قتل سبع تلميذات إسرائيليات عام 1996. ولكن لحسن الحظ لم تجد استجابة كافية لتحويل مسار الحراك، ولعلها أفادت في تشكيل وعي مجتمعي وشعبي للاهتمام بالأهداف الاقتصادية والاجتماعية للإصلاح والتركيز عليها، والانطلاق منها نحو الإصلاح السياسي، بل وأثارت الريبة في سلوك وزير العدل الذي يسعى في قضايا إعلامية ويتجاهل تغول وزارته على القضاء، وإصدار قوانين موقته تحول السلطة التنفيذية إلى سلطة قضائية أيضاً. وفي الطابع المجتمعي للحراك الإصلاحي، والمجتمع الأردني والمجتمعات العربية بعامة تتصف بالمحافظة والتدين، ويتفق ذلك مع وجود حركات إسلامية واسعة الانتشار والنفوذ ثمة حاجة كبيرة للتشديد على الحريات الشخصية والاجتماعية وحرية الاعتقاد والتفكير، ورفض أي تقييد قانوني أو ديني او سياسي أو اجتماعي لهذه الحريات، وفي الحالة التي يتصف الحراك الإصلاحي بالتشدد الاجتماعي والديني، فإنه لا يعود إصلاحياً، ويخسر أيضاً قطاعاً واسعاً من المجتمعات، ويخسر أيضاً التعاطف الغربي والأجنبي. يجب أن نلاحظ ونقر بامتنان واحترام كبيرين أنه بغير التعاطف والتضامن الغربي لم يكن الحراك الإصلاحي لينجح بهذه السهولة، وفي ليبيا كان الموقف الغربي مصدر حماية الحراك الليبي الشعبي للحرية، ومن دونه كنا سنشهد مذبحة وحشية ومرعبة قد تودي بحياة نصف مليون إنسان، وتشرد نصف الشعب الليبي. لقد كان الموقف الغربي جميلاً ورائداً، ولكن هذا الموقف قد يتحول إلى العكس، فالغرب الذي يقدس الحرية والعدالة والحريات الشخصية لن يفهم حراكاً معاكساً، وفي هذه اللحظة، فإن بعض الأنظمة السياسية لن تتورع عن إبادة شعوبها، العالم الغربي اليوم يقف موقفاً مؤيداً للشعوب والمجتمعات، ويتوافق ذلك مع ترحيب شعبي ومجتمعي عربي وإسلامي، وهي لحظة تاريخية وجميلة، قد تحول أوضاع المنطقة والعلاقة مع الغرب في وجهة مختلفة عما كانت عليه لقرون طويلة موحشة وقاسية. وبقدر من الحكمة والفهم الصحيح يمكن الشعوب والمجتمعات العربية أن تحول هذا المسار التاريخي في وجهة ستؤثر بالتأكيد في وجهة العالم بأسره، وفي الوقت نفسه، فإن قدراً من العبث والاستدراج يمكن أن يجهض هذه اللحظة التاريخية النادرة، ويمكن على سبيل المثال التذكير بأن استعداء اليهود في الدول العربية ساهم في شكل أساس في قيام دولة إسرائيل واستمرارها، ولنتخيل لو أن اليهود المصريين والعراقيين والمغاربة وغيرهم ظلوا مواطنين منتمين إلى بلادهم ويعيشون فيها، سيكون عدد المهاجرين إلى إسرائيل أقل من ثلث عددهم الحالي، وسيكون الفلسطينيون أكثرية، وستؤول الأمور في أسوأ الحالات إلى دولة ثنائية القومية، فلسطينية - إسرائيلية، لقد كانت لحظة أهدرت بالغوغائية والتطرف، وهي نفسها الغوغائية التي جلبت على الدول العربية قيادات فاشلة ومجهولة ومجنونة ساقت بلادها وشعوبها للدمار والفقر محتمية بشعارات التحرر والقومية والنضال. وهناك مخاوف حقيقية ومبررة من أن تؤول العملية الإصلاحية إلى ديكتاتورية الأغلبية واضطهاد الأقلية،... كيف سنضمن التزام الأغلبية أية أغلبية الانتخابية أو السياسية او السكانية او الدينية بالحقوق الكاملة غير منقوصة للأقلية، وفرصها في التعبير والعمل لأجل فكرتها وما تدعو إليه سلمياً، والنظر إلى مواقف وآراء الأقلية باعتبارها ممكنة التحول إلى أغلبية، ومن الضروري أن يقدم الحراك الإصلاحي رؤية ملتزمة وصادقة لضمان الحريات والحقوق، والتشديد على حقوق جميع المواطنين في التعبير والحريات والاعتقاد والهويات الفرعية مع الالتزام بالهوية الرئيسية الجامعة ومنح فئات من المواطنين تمييزاً إيجابياً منصوصاً او متعارفاً عليه، وبغير هذا الارتقاء في الوعي وتوزيع المكاسب يستدرج الإصلاح إلى حروب ونزاعات اهلية، فالنضال لأجل نزع الحقوق يساويه بالضرورة أيضاً التنازل عن حقوق ومكتسبات، وفي الحقيقة فإنه ليس تنازلاً عن الحقوق، ولكنه التنازل الطوعي او الإيجابي للأغلبية القادرة على اغتصاب حقوق الأقلية، وكما ينظر إلى الفرد الذي يحرم الأغلبية من حقوقها بأنه مستبد، فإن الأغلبية بحرمانها للأقلية حتى لو كانت هذه الأقلية شخصاً واحداً تمارس ديكتاتورية الفرد. وفي المحصلة، فإن الحراك الإصلاحي اليوم هو عملية قاسية ومملة من البحث والتفكير والتعليم، وليس فقط عمليات جماهيرية واعتصامات، وأرجح أنه في دول عدة معتدلة نسبياً يمكن تحقيق إصلاح جذري ومتقدم من دون تظاهرات واعتصامات، فضلاً عن العنف، إذا امكن تقديم رؤى وأفكار متقدمة ومدروسة وكان ثمة استعداد للحوار والاستماع... كثير من الأنظمة السياسية العربية اليوم تدرك حاجتها إلى الحوار والوصول إلى إصلاح يرضي المجتمعات، ولكن يجب ان تعرف الشعوب ماذا تريد وما الذي تحتاج إليه بالفعل وما الذي لا تحتاج إليه. * كاتب أردني