"أيها الميت فوق الخشبة"...لكن الميت على المسرح هذه المرة هو السجّان، والجملة مأخوذة من قصيدة"أشباح تخال نفسها حياة"لشاعر روسيّ شاب مغمور هو غيورغي فاسيلييف، وقد ألزم عرضُ"المنفردة"حاز جائزة أفضل عرض وأفضل ممثل في مهرجان ليفربول الدولي للمسرح ،كندا شخصيتيه، بالتنكّر لطبيعتهما التقليدية كسجين سياسيّ وسجان، لتنتهي المسرحية بألم مشترك في الزنزانة وما بعدها أي الإفراج. النص الذي ألّفه ومثّله نوار بلبل ورامز الأسود، هو واحد من النصوص السورية القليلة التي تتمتع باستقلالية عن الإعداد أو الاقتباس من النصوص المسرحية العالمية، ورغم هذا فقد طاولته اتهامات بأنه أُخِذ عن عرض ما. إلا أن ما يحدث على الخشبة يعطيه مكانة ما، من دون الخوض في التشكيكات، لاسيما أن مُتخّرجَي المعهد العالي بلبل وأسود أسّسا عام 2006 فرقة"مسرح الخريف"، ونشطا بعيداً عن المسرح القومي. الثيمة المطروقة في العلاقة الحادة داخل السجن، أوجد لها النصّ المكثف 50 دقيقة مخرجاً مريحاً، ومنذ المشهد الأول بعد قرع جرس قوي كإشارة إلى وقت التعذيب، يُسمَع صوت جَلْد وضحية تئن، لكنه يُتبَع بحوار بين السجين أبي نضال موجه إلى السجّان مهنّا، ناصحاً إياه بالبكاء لتفريغ القهر الداخلي. ثم تتالى جمل من أبي نضال تلجم عنف السجان، ليخترق السجين عالم غريمه الوحيد في مكان كئيب، يأخذه إلى أقصى النقاط بعيداً عن الهاجس السادي، ويورطه في سرد تفاصيل حياته. هو غير متعلم، لذا تقوده الحاجة إلى أن يكون تلميذاً لدى ضحيته، هذا التلميذ يحفظ الدرس وهو يجلد، ويكهرب، ويشتم أستاذه، فيخرج النص هنا عن مساره الميلودرامي العادي، ليشكل دواخل الشخصيات على الخشبة. فالشخصيتان تتبادلان المازوشية والسادية، كما يستحضر السجان، حالات هي أشبه بذاكرة اجتماعية حملها معه طوال حياته كشخص فاشل لا جدوى منه، مثقل بتحقير الأهل. تمرر جُمَل الحوار تحية من الممثلين إلى أستاذهما في المعهد العالي للفنون المسرحية المخرج العراقي عوني كرومي 1945? 2006، إلا أنها تكاد لا تلفت، ويركز بلبل حاز عن نصه"جدل"المركز الثالث في مسابقة مديرية المسارح لعام 2003 على ريبيرتواره بشدة وكأنه الوحيد الذي يمسك العرض. الخشبة البسيطة أقصى المستطاع شكلت سجناً سينوغرافياً جديداً، آلة التعذيب تحمل على دبوس كبير 117 رسالة من زوجة السجين، كل رسالة فيها نهمٌ سادي يفوق ما يحمله السجان الحزين. فهي تلزمه بالتوقيع على ما لم يفعله، تهدده بحرمانه من أطفاله، والسؤال:"كم يفعل المناضلون ما يرغبون فيه؟"، أبو نضال لا يكف عن تمرده على ما يريده المجتمع، يريد التوقيع، وبالفعل فهو يوقع في آخر العرض، ولكن بعد أن يدرك صدمة مهنا في فشل حصوله على طفل، عندما يأتيه، دامجاً بين خبر نجاحه وموت طفله وزوجته. لم نعرف هنا ضمن الطريقة الإخراجية للمونولوغ، إن كان السجان نجح حقاً، فهو يتأتئ بجملة عن زوجته، وأخرى عن الدراسة والفحص. وكان الأمر ضبابياً في النهاية، إذ تتعرى الشخصيتان، ثم تتواجهان وكأنهما أمام حقيقة فردية وأخرى ثنائية. لم تشتد اللعبة هنا بما هو مقنع، فالنهاية جاءت من دون حسابات دقيقية. لعبت الإضاءة دور التظليل، فهي تعتم على شخصية لتضيء الأخرى، وتلاحق الحركة المضطربة للسجين وهو يدعك ثيابه بالماء، يغسلها كما لو أن امرأة تفعل ذلك. واختصرت اللقطة المسرحية حالة تجمّد المشاعر والتآلف مع الحاجة ضمن المكان الضيق، حيث الخرز الملون هو التسلية الوحيدة، في المكان. والأكثر دهشة هو كيف تتكلم الشخصيتان بمنطق هادئ جداً، رغم أن الفعل الجسدي الذي أفرد له الأسود مساحة الخشبة سريع وانفعالي، في الضرب والهرب. هذه الصداقة المبطنة، لا مكان لها سوى العتمة، والواقعية في الشخصيتين جعلتهما وكأنهما تتوهمان التودد بينهما، فهل أصواتهما خرجت منهما أم من مدلولات المجتمع فيهما. كلام بسيط في أحد المشاهد وممل تقريباً عن الحرمان والعزلة التي يعيشها السجين، يجعل من السجان كاتباً مطيعاً له. هل حقاً أن من يملي الكلام هو السجين، أم أنها التوقعات المشوهة للآخرين بما سيقوله؟