شيئاً فشيئاً بدأ يتبلور لدى بعض النخب في إسرائيل أخيراً مفهوم جديد في شأن التداعيات الجوهرية لسيل القوانين التي سنّها الكنيست والتي تسعى - سرّاً أو علناً - إلى أهداف غير ديموقراطية بتاتاً. وتشمل هذه القوانين:"قانون النكبة"، و"قانون لجان القبول"، و"قانون المقاطعة"، وتعديل قانون المواطنة، والمبادرة للتحقيق مع المنظمات اليسارية والأكاديمية، وغيرها من القوانين ومشروعات القوانين. وفحوى هذا المفهوم هو أن المستوطنين باشروا من طريق الكنيست ضم دولة إسرائيل إلى المستوطنات، وذلك بعد أن ضاقوا ذرعاً بالجدل الإسرائيلي اللانهائي في شأن مسألة ضم المستوطنات إلى الدولة، كما يؤكد البروفسور أورن يفتاحئيل، أستاذ الجغرافيا السياسية في جامعة"بن- غوريون"في بئر السبع، والرئيس المشارك لإدارة منظمة"بتسيلم"لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة. وفي رأيه، فإن هذا المفهوم الذي تُطلق عليه عبارة"الضم المعاكس"ينطوي على المغزى الرئيس لدورة الكنيست الشتوية التي انتهت أخيراً، وتمخضت عن وابل من القوانين والمبادرات التشريعية المذكورة أعلاه. ولعل ما يسترعي الانتباه في هذا السياق هو أن المبادرين إلى طرح هذه القوانين ولجان التحقيق، وفي مقدمهم أعضاء الكنيست من كتلتي"إسرائيل بيتنا"و"الاتحاد الوطني"، أو زعماء منظمات مثل"إم ترتسو"و"معهد الإستراتيجيا الصهيونية"، يعيشون منذ سنوات طوال في منطقة محتلة. وقد أدرك هؤلاء على ما يبدو أن أكثرية الشعب في إسرائيل غير معنية بضم المناطق المحتلة، وغير معنية بدولة ثنائية القومية ستنبثق عن مثل هذا الضم، الذي ترفضه أيضاً أكثرية الشعب الفلسطيني. ويظهر أن قلائل فقط قد انتبهوا إلى الجغرافيا السياسية الجديدة التي أخذت تتكشف هنا، فالغالبية العظمى من المبادرين إلى هذه القوانين والتحقيقات مؤلفة من مستوطنين يريدون أن يفرضوا على شعب إسرائيل بأكمله مبادئ الحياة في الضفة الغربية وأنماطها، والتي تستند كما هو معلوم إلى قوانين"منفصلة وغير متساوية"لليهود والعرب، بخلاف تام للقانون الدولي. وهكذا، فإنه عوضاً عن أن تقوم إسرائيل بضم"المناطق"، فإن المناطق"المهوّدة"تقوم بضم الدولة إليها، خطوة بعد خطوة. وتوقف يفتاحئيل مثلاً عند"قانون المقاطعة"الذي يحظر الدعوة إلى مقاطعة مؤسسات وهيئات إسرائيلية، علماً أن تعريف"إسرائيلية"أو"إسرائيلي"يشمل هنا أيضاً جميع"المناطق الخاضعة لسيطرة إسرائيلية"، فقال إن هذا القانون يضم إسرائيل إلى المستوطنات بصورة قانونية، وليس بصورة واقعية وحسب كما حدث حتى الآن. كذلك، فإن التعديل الأخير لقانون المواطنة، والذي يفرض عقوبات مشددة على كل من يساعد في نقل مناطق أو أراض من إسرائيل إلى دولة خارجية، يربط عملياً وفق تفسير محتمل دولة إسرائيل بمناطق المستوطنات. كما أن"قانون لجان القبول"الذي يسمح للبلدات الجماهيرية في إسرائيل بتشكيل لجان قبول مخوّلة منع الأشخاص غير الملائمين من السكن فيها يدخل إلى القوانين الإسرائيلية بديهيات"المناطق"، إذ سيتولى المستوطنون بموجبه غربلة وانتقاء الذين يريدون السكن في مستوطنات، حتى لو كانت قائمة على أراضي دولة تعود ظاهرياً إلى جميع مواطنيها. وكان تقرير صدر أخيراً عن منظمة"بتسيلم"قد كشف أن المستوطنات استولت عملياً على قرابة 50 في المئة من أراضي الضفة الغربية، ويبدو أن أنظارها تتجه الآن للاستيلاء والسيطرة على مراكز داخل الخط الأخضر. وثمة مثال آخر هو ما أعلن عنه أخيراً في شأن إقامة ميليشيات خاصة تهدف إلى حماية أحياء في جنوب مدينة تل أبيب مما وصف ب"تهديد اللاجئين"ومن أجل"تنظيف"المنطقة. ويقف على رأس هذه الميليشيات الجديدة باروخ مارزل، أحد زعماء المستوطنين في الخليل. في الوقت ذاته تجرى على قدم وساق حركة استيطان دينية - قومية في قلب أحياء عربية في المدن الإسرائيلية المختلطة، كما هو حاصل في يافا أو عكا. في المقابل، طرأ مزيد من التشدّد على السياسة المتبعة إزاء المواطنين البدو في منطقة النقب، إذ أقدمت إسرائيل عام 2010 على هدم نحو 700 بيت لمواطنين بدو يقيمون على أراض ورثوها من آبائهم وأجدادهم. وبالتالي، فإن ما نشهده هنا هو استحضار واستيراد إجراءات سيطرة عنيفة، يتسم بها الواقع القائم في الضفة الغربية، إلى داخل تخوم الخط الأخضر. ويعتقد هذا الأستاذ الجامعي أن المشكلة المركزية هنا ليست المستوطنين، لأن هؤلاء يشكلون أقلية ضئيلة نسبياً وأيديولوجياً، ومن المنطقي أن تسعى إلى تحقيق أهدافها، إنما المشكلة البنيوية هي في النخب السلطوية، العسكرية والاقتصادية، التي تدعم وتشجع من دون توقف أو كلل نشاطات المستوطنين وأعمالهم، والمبادرات والتشريعات القانونية. فضلاً عن ذلك، وربما الأهم من هذا كله، هو أن الغالبية الصامتة في إسرائيل تقبل من دون أي اكتراث عملية الضم المعاكس هذه. وأعاد إلى الأذهان أن المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي سبق أن وصف هذه الظاهرة بأنها"ثورة سلبية"تنتقل خلالها الطبقات الوسطى رويداً رويداً إلى تأييد دعاة الفاشية، وهي عملية تنبع من شعبوية وقوموية وامتيازات اقتصادية، وتشفّ عن انهيار أخلاقي. وقد انتهت هذه العملية في إيطاليا بكارثة الانضمام إلى دول"المحور"وبأزمة عميقة بعد الحرب العالمية الثانية. أمّا في إسرائيل فيبدو أن"الثورة السلبية"هي في ذروتها، جنباً إلى جنب تجرّد شامل من الصفة الإنسانية، ومع تغاض تام عن سيرورة جلية للعيان، تحدث عنها أخيراً رئيس الحكومة السابق إيهود أولمرت قائلاً إن"دولة إسرائيل ستكون في حكم المنتهية إذا لم تقم دولة فلسطينية... فالبديل هو دولة أبارتهايد على غرار جنوب إفريقيا...". "مملكة المستوطنين"! وكان عضو الكنيست الأسبق والسياسي المخضرم أوري أفنيري قد أشار هو أيضاً إلى أن المفهوم الخفيّ لسيل القوانين الأخيرة في الكنيست هو ضم دولة إسرائيل إلى"مملكة المستوطنين". وأعطى"قانون المقاطعة"مثلاً على ذلك، حيث لا تظهر كلمة"مستوطنات"في القانون، كما لا تظهر كلمة"عرب"في قوانين أخرى. وعوضاً عن ذلك، ينص القانون ببساطة على أن مقاطعة إسرائيل، الممنوعة وفق هذا القانون، تشمل أيضاً مقاطعة مؤسسات ومصانع إسرائيلية في الأراضي الفلسطينية التي ينطبق عليها الحكم الإسرائيلي. ويشمل ذلك، كما هو معلوم، الضفة الغربيةوالقدسالشرقية وهضبة الجولان، وأن ذلك يشكل لب القضية كلها، إذ إن المبادرين يريدون إسكات المطالبة بمقاطعة المستوطنات، التي تحظى بانطلاقة في مختلف أنحاء العالم. وزاد أفنيري:"عندما انطلقنا في حملة مقاطعة المستوطنات كان هدفنا المعلن هو رسم خط واضح بين إسرائيل السيادية بحدودها المعروفة - الخط الأخضر - وبين المستوطنات. ووفق رأينا، فإن مقاطعة المستوطنات تساعد على إعادة الخط الأخضر إلى ما كان عليه، وعلى تحديد تمييز واضح. غير أن هذا القانون يفعل عكس ذلك، إذ إنه يمحو التمييز بين دولة إسرائيل والمستوطنات. وبذلك فإنه يتعاون مع المطالبين بمقاطعة عامة ضد إسرائيل، من منطلق الاعتقاد بأن دولة أبارتهايد موحّدة من البحر الأبيض المتوسط حتى نهر الأردن ستشق الطريق إلى الديموقراطية في المستقبل. ويتسق ما يقوله يفتاحئيل وأفنيري مع توكيد نخب أخرى أن الخلافات بين الإسرائيليين في شأن المناطق المحتلة قد حُسمت لمصلحة المستوطنين، وتحديداً منذ"خطة الانفصال"عن قطاع غزة وبعض أجزاء شمال الضفة الغربية في عام 2005. ومن هؤلاء سيفر بلوتسكر، أحد كبار المعلقين الاقتصاديين والسياسيين في صحيفة"يديعوت أحرونوت"، الذي يعتقد أن رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق أرييل شارون - بوصفه أباً روحياً وعملياً لمفهوم الانفصال من جانب واحد - كان مدركاً على نحو جيّد أن المعركة بين الإسرائيليين في شأن مستقبل المناطق المحتلة قد حُسمت منذ ذلك الوقت لمصلحة المستوطنين، ولذا فإنه بواسطة إبراز الصعوبة الكبيرة التي واجهت عملية إجلاء بضعة آلاف من المستوطنين في قطاع غزة في إطار"خطة الانفصال"أظهر للعالم أجمع الصعوبات الأكبر التي من المتوقع مواجهتها في حال الإقدام على عملية إجلاء تشمل أعداداً تفوق عدد أولئك المستوطنين بعشرين ضعفاً يقصد المستوطنين في الضفة الغربية". وتابع:"لا شك في أن معظم الإسرائيليين على استعداد في الوقت الحالي للتسليم بإقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، غير أن الدولة التي يقصدونها لا تختلف كثيراً عن السلطة الفلسطينية الحالية، سواء من الناحية الجغرافية، أو من الناحيتين السياسية والعسكرية. ولعل أكثر ما يدل على هذا القصد هو أن أقلية من بين الإسرائيليين وفقاً لاستطلاعات الرأي العام تؤيد إجلاء 150 - 200 ألف مستوطن من يهودا والسامرة الضفة الغربية، وتدعم انسحاب الجيش الإسرائيلي من قواعده العسكرية في غور الأردن، وإقامة خط حدودي جديد في مدينة القدس، وتحويل المناطق المحتلة إلى بلد يستوعب مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين وخصوصاً من مخيمات لبنان. ولا بُدّ من الإشارة أيضاً إلى أن خطة الانفصال عن غزة تحديداً عادت أخيراً إلى صدارة الجدل في ضوء الانتفاضات العربية وخصوصاً إثر ثورة 25 يناير المصرية، ورأى إلياكيم هعتسني، عضو الكنيست السابق وأحد زعماء المستوطنين في الخليل، أن مشكلات إسرائيل مع قطاع غزة تفاقمت بسبب خطة الانفصال. وأضاف أن الانطباع الأولي المتكوّن في شأن خطاب الثوار في مصر والذي يؤكد أنه خطاب نظيف من كراهية إسرائيل هو انطباع غير دقيق مطلقاً، ذلك أن متظاهرين كثيرين شددوا على أنه عندما يصبح الشعب المصري حراً، فإنه سيقوم بتحرير الفلسطينيين وبتدمير إسرائيل، فضلاً عن أن زعيم الإخوان المسلمين يؤيد إلغاء اتفاق السلام مع إسرائيل، ويدعم سلطة"حماس"في غزة. ولا شك في أن احتمال تحوّل مصر إلى ظهير لوجيستي لكيان حماس في غزة ينطوي على خطر شديد بالنسبة الى إسرائيل، ويمكن القول إن رئيسي الحكومة السابقين إسحق رابين وأرييل شارون بادرا إلى إقامة مستوطنات يهودية في قطاع غزة بهدف منع حدوث سيناريو من هذا القبيل. وبرأيه، فإن إسرائيل مطالبة الآن أكثر من أي وقت بأن تصوغ إستراتيجيا جديدة في مواجهة مثل هذا التهديد، لكن قبل ذلك على الزعامة الإسرائيلية كلها أن تعترف بأن خطة الانفصال عن غزة وتفكيك المستوطنات اليهودية فيها كانت السبب المباشر وراء إقامة أول دولة"إرهابية"في العالم لا تزال وحيدة، ووراء ما نجم عن ذلك كله وهو: إطلاق الصواريخ على بلدات إسرائيلية"عملية"الرصاص المسبوك""تقرير لجنة غولدستون"حملة نزع الشرعية عن إسرائيل في العالم"قوافل السفن إلى غزة واندلاع حرب باردة بين إسرائيل وتركيا. * باحث في المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية -"مدار"