تولّد الأحداث التي تشهدها تونس ومصر قدراً كبيراً من الارتياب، لكن ينبغي أن تلقى ترحيباً يحاكي ذاك الذي حصلت عليه الثورات الملوّنة الأخرى في العقود المنصرمة الأخيرة. وتقسم الثورات تاريخيّاً إلى نوعين، يقوم أوّلهما على الثورات الجذرية وثانيهما على الثورات الملوّنة الأحدث عهداً. وتعمد الثورات الجذرية إلى تعبئة الفلاحين والعمّال الأمّيين، وتحضهم على كره الطبقيّة وخصوصاً النخبة التي تحظى بامتيازات. وينشر هذا النوع من الثورات إيديولوجية التغيير الاجتماعي الجذري، بهدف إسقاط النظام الاجتماعي والتخلّص من الفئة المتميّزة. وهذا ما قام عليه النمط الطاغي على الثورة الفرنسية والثورة الروسية والثورة الصينية الشيوعية والثورة الكوبية والثورة الإيرانية. أمّا الثورات الملوّنة الجديدة، فتعمد،على نقيض سابقتها، إلى تعبئة العمّال المهرة والمتخصصين والطبقات المتوسطة والطلاّب، وتفتقر إلى الإيديولوجية الجذريّة، مستعيضة عنها باستبدال حاكم مكروه أو بإسقاط الحزب الحاكم، باللجوء إلى معايير الليبرالية الديموقراطية. وهذا ما قامت عليه الثورات في كلّ من تشيكوسلوفاكيا وصربيا وأوكرانيا والفيليبين وجورجيا. وحتى الآن، تندرج الأحداث في تونس ومصر ضمن إطار الثورات الملوّنة، حيث أنّ مشاركة الجماعات المتطرّفة في الأحداث تعتبر قليلة أو غائبة كلّيّاً. وتثور الشعوب، عوضاً عن ذلك، على عقود من القمع الذي فرضه قادة فاسدون سعوا على نحو متزايد إلى تحويل البلاد إلى إقطاعيّات عائليّة. وتبدو هذه البلدان، تماماً كما في الثورات الملوّنة الأخرى، وكأنّها متّجهة نحو ديموقراطيات قد تكون فوضوية أو مثيرة للجدال، إنّما ليس نحو أنظمة أصولية واستبدادية. إلاّ أنّ الحرص واجب، حيث أنّ المتطرّفين لم يكونوا دوماً مسيطرين منذ البداية، حتى في الثورات الجذرية. ولم يتسنّ لهم بلوغ السلطة في إيران وفرنسا وروسيا إلاّ من طريق الإطاحة بالأنظمة الأكثر اعتدالاً التي ظهرت للمرة الأولى بعد سقوط الشاه والملك والقيصر، مع العلم أن المخاوف من حصول ثورة مضادّة هي التي منحت المتطرّفين الفرص التي تسنّت لهم. وتجدر الإشارة إلى أنّ فراغ السلطة الذي يتبع الثورات هو الذي يمنح مختلف الفئات فرصة التنافس للحصول على دعم شعبي. وفي حال شعر الشعب بأنّه مهدّد، ينجذب إلى الفئات الأكثر صراحة في دفاعها عن الثورة، ما يخلق فرصاً أمام الجماعات المتطرفة المنظّمة للسيطرة على الثورات ويدفع الشعب إلى التمادي إلى أقصى الحدود. وقد يكون لمحمد البرادعي دور شبيه بذلك الذي لعبه فاكلاف هافيل - الحائز مثله جائزة نوبل- في تشيكوسلوفاكيا، والذي دعم الثورة"المخملية". أو يمكن أن يكون له دور شبيه بدور المحامي الروسي المنفي ألكسندر كيرينسكي الذي أصبح أوّل رئيس للوزراء بعد سقوط القيصر وترأس حكومة"كاديت"المعتدلة، مع أنّ البلاشفة عزلوه بعد أشهر قليلة، في ظل حكم لينين وتروتسكي. وتجدر الإشارة إلى أنّ ما سيحدّد بقاء مصر وتونس ضمن إطار الثورات الملونة، أو اعتمادها منحى التطرّف، مرهون بما إذا كان النظام الجديد فيهما سيشعر بأنه مهدد من الأعداء الخارجيين والداخليين. ويتحتّم إذاً على القادة الغربيين أن ينشطوا في طمأنة أية أنظمة جديدة تنشأ داخل هاتين الدولتين إلى أنّها غير مهدّدة على الإطلاق. وحتى إذا شارك الإسلاميون في الحكومات الجديدة ? وهذا ما سيحصل على الأرجح- فمن الضروري أن تنجح حكومات الولاياتالمتحدة ودول الغرب في تجنّب أيّ ردّ فعل مبنيّ على الشك أو الخوف، لأنّها إذا فعلت ذلك، فستؤجّج البارانويا وتعزّز من شعبية المتطرفين. والأرجح أن ينظر حلفاء الغرب في الأردن والسعودية والمغرب إلى الأنظمة الجديدة بارتياب، وأن يطلبوا من الولاياتالمتحدة وأوروبا التروّي حيال الأنظمة التي أطاحت حكام البلدان التي شهدت الثورات. غير أنّه من الضروري كبح اندفاع من هذا القبيل، وتنبيه الحكام في دول الشرق الأوسط ودعوتهم إلى الانفتاح في مجتمعاتهم بدلاً من مواجهة خطر الإطاحة بهم. في أعقاب الثورات الملونة التي شهدتها كلّ من الفيليبين ودول أوروبا الشرقية وجورجيا، سارعت قوى الغرب إلى الاعتراف بالديموقراطيات الجديدة التي كانت تشقّ طريقها بجهد، وإلى دعمها واحتضانها. وهذا ما ينبغي أن تفعله القوى الغربية، من دون تأخير، في مصر وفي تونس. وإن لم تفعل ذلك، فسيتسبّب الأمر بتحقق التوقعات التي تنبئ بها هذه القوى الغربية، وذلك بتوجّه هذه الثورات إلى التطرّف، وهو أمر لا لزوم له على الإطلاق. * باحث أميركي في جامعة جورج مايسون - ولاية فرجينيا