يهجس العالم المالي بأحوال سوق الأسهم والسندات. لكن الأرقام البالغة الدلالة في الأمد الطويل هي تلك التي تشير إلى حجم أسطول البحرية الأميركية. وتربعت آسيا في مركز الاقتصاد العالمي طوال عقود جراء استقرار الأمن البحري. ويعود الفضل فيه الاستقرار إلى هيمنة البحرية الأميركية والقوات الأميركية الجوية في غرب الهادئ. ف90 في المئة من السلع التجارية بين القارات تنقل في البحر. والشطر الراجح من حماية خطوط النقل البحرية تتولاه القوات البحرية الأميركية. لذا، يجوز القول إن العولمة على ما نعرفها اليوم هي وليدة الجهود الأميركية هذه. والأمور قد لا تبقى على المنوال هذا. ففي الثمانينات من القرن الماضي، وهو عهد السياسات الريغينية نسبة إلى دونالد ريغان، ارتفع حجم الأسطول البحري الأميركي إلى 600 سفينة حربية. وفي التسعينات، إثر انهيار جدار برلين، تدنى العدد هذا إلى 350. وقوة البحرية الأميركية اليوم هي 284 سفينة حربية. وقد يرفع العدد هذا إلى 313 سفينة في الأمد القصير نتيجة ضم سفن قتالية ساحلية إلى الأسطول. ومع الوقت، قد يقلص الأسطول البحري الأميركي إلى 250 سفينة حربية لتخفيض النفقات ومعالجة العجز وتفكيك السفن"المسنّة"في 2020، وسحبها من الخدمة. وأوصت لجنة مراجعة الدفاع الديموقراطية والجمهورية في 2010 برفع عدد السفن الحربية الى 346 للتصدي للتحديات الدولية المعولمة. لكن ثمة فارقاً بين أسطول أميركي قوامه 346 سفينة وأسطول أميركي قوامه 250 سفينة. ويترتب على الفارق هذا نظام عالمي مختلف. فالجيوش تعد للرد على حوادث طارئة، لكن الأسطولين البحري والجوي هما مرآة القوة وسلطانها. والقوة نسبية، ولو لم تسعَ دول أخرى الى تعزيز قدراتها البحرية والجوية، لما أولى أحد أهمية لحجم الأسطول الأميركي. ويحتدم سباق تسلح في منطقة غرب الهادئ، لا يستخف بأهميته. فالدول الآسيوية تسعى إلى حيازة عتاد تكنولوجي وغواصات جديدة وسفن وطائرات حربية وصواريخ، وتعد العدّة للحروب الافتراضية الإلكترونية. وتبرز الحاجة الى القوات الأميركية للحفاظ على توازن القوى والسلام الضروري للتفاعل الاقتصادي. ورفعت الصين عدد غواصاتها من 62 الى 77، وفاق حجم أسطولها هذا حجم نظيره الأميركي، ولو لم يتفوق أسطولها على نوعية الغواصات الأميركية. وتشتري بكين مئات الطائرات الحربية من الجيلين الرابع والخامس. وتشتري الهندوفيتنام وماليزيا وسنغافورة وأندونيسيا الغواصات، بعدما قوّض تقدم تكنولوجيا الصواريخ سلامة السفن الحربية، وأبرز هشاشتها. ويرجح أن تنفق استراليا في العقدين المقبلين 279 بليون دولار لشراء غواصات ومقاتلات وطائرات حربية، وتحدِّث اليابان وكوريا الجنوبية برامجهما العسكرية. ووفق دراسات دولية، يتوقع أن تحوز الدول الآسيوية 111 غواصة في 2030. والأنظمة المتعددة القطب تميل إلى الاضطراب أكثر من النظام الأحادي. فهي مشرعة على احتمالات"الاحتكاك"بين القوى، وهذه قد تنزلق إلى نزاعات نتيجة سوء تقدير وحساب. وإذا لم تبسط الولاياتالمتحدة قوة بحرية وجوية راجحة في المحيطين الهندي والهادئ، آل مستقبل التدابير العسكرية إلى نظام متعدد القطب. وعالم من غير هيمنة بحرية وجوية أميركية هو عالم يحتدم فيه التنافس العسكري بين الصينوروسياوالهندواليابان وغيرها من الدول الآسيوية. واليوم، روسياوالصين تستفيدان من الممرات البحرية الآمنة التي تحميها الولاياتالمتحدة. وإذا انحسرت الهيمنة العسكرية الأميركية في المحيطين الهندي والهادئ، برز احتمال"فنلندنة"بكين دول بحر جنوبالصين مثل فيتنام وماليزيا وسنغافورة. فالقوة الاقتصادية للصين وقربها الجغرافي من هذه الدول يعرّضان دول الجوار لأخطار تفوق الأخطار الأميركية. فأميركا بلد ديموقراطي بعيد جغرافياً. وإثر تعذر إبرام لجنة الكونغرس مساومة، يبدو أن أزمة الدَيْن قد تؤدي إلى تقليص موازنة البحرية الأميركية وسلاح الجو تقليصاً تاريخياً. وحري بعالم الأعمال أن يولي الأهمية لحجم الأسطول الأميركي وأن يأمل ألا تنحسر قوته. * باحث في مركز"نيو أميركان سيكيوريتي"، عن"فايننشل تايمز"البريطانية، 29/11/2011، اعداد منال نحاس