في نيسان ابريل من العام الجاري، شهد لبنان تدفق آلاف المواطنين السوريين خصوصاً إلى شمال البلاد، وقُدر في ذلك الحين عدد الداخلين بحوالى خمسة آلاف شخص، ولكن ما لبث أن عاد كثيرون منهم في وقت لاحق إلى سورية، إلى أن وصل عدد المدرجين منهم رسمياً على لوائح المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين والهيئة العليا للإغاثة، في تشرين الثاني نوفمبر الماضي إلى 3.643 شخص مسجل في الشمال وعكار، ويعيش معظمهم لدى عائلات مضيفة. العدد المسجل رسمياً محصور بمن يتلقى المساعدات من هاتين الجهتين الرسميتين، والذي يعيش في ظلّ ظروف معيشية صعبة، خصوصاً أن العائلات المضيفة، في معظمها، عائلات يصعب وصف حالها الاقتصادية بأكثر من"مستورة"أو أقل. يتم إحصاء العدد في شكل شبه يومي، لكنه لا يشمل جميع السوريين الذين دخلوا الأراضي اللبنانية هرباً من الظروف الأمنية التي تعصف ببلادهم منذ آذار مارس. وفي حين يشمل العدد معظم الذين دخلوا لبنان"تهريباً"، وقبعوا في عكار وتحديداً في وادي خالد والقرى المحيطة به ضمن مساحة جغرافية"مضبوطة"، إلاّ أنه لا يحصي مَن تسمح لهم ظروفهم المادية والاجتماعية بالتجول في لبنان، كأولئك الذين تملأ سياراتهم العاصمة بيروت، فلا يكاد يخلو شارع من سيارة"جديدة"الطراز والتصنيع ورقم لوحتها من إحدى المدن السورية التي لم يصل إليها"المدّ الثوري"حتى الآن كحلب ودمشق. هذا التحقيق يلقي الضوء على أوضاع"الداخلين اضطراراً إلى لبنان"، التسمية التي اعتمدتها الحكومة اللبنانية لمَن تصنّفهم تلقائياً المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين،"لاجئين"، بحكم أنهم هاربون من خطر محدق ومحتم على حياتهم. ويتطرق إلى انعكاس وجودهم على"مستضيفيهم"، وموعد عودتهم"المرتقب". ولأن محاولة الاطلاع على أوضاع النازحين السوريين، يحكمها الكثير من المعايير التي تضع السائل أمام مسؤولية إنسانية، وذلك بفعل الرعب المحيط بهم والذي يحاولون إبرازه مع كل كلمة، ومع صعوبة التحقق من رواياتهم، يبدو انهم الوحيدون القادرون على تقويم وضعهم بصرف النظر هل خوفهم وهمي أو مبرر. وعليه، فإن جميع الأسماء الواردة في التحقيق هي أسماء مستعارة حفاظاً على أصحابها الذين يؤكدون أن"حتى استخدام الاسم الأول لطفل من أطفالهم يدرجهم تلقائياً على لائحة المطلوبين". الطريق الى وادي خالد تستمر في التوغل شمالاً، إلى أن ينتابك شعور أشبه بدوار البحر، لكثرة ما تصعد السيارة وتهبط مرة على مطب اسمنتي ومراراً في حفر تكبر وتصغر بطريقة متناسقة مع ضيق الشوارع او اتساعها. وكلّما اقتربت من"مقصدك"، ساءت حال الطريق، وإن كانت الازقة الضيقة والحفر المتتالية تمكنك من الانتباه إلى"ترحيب"قرية مشتى حمود بزوّارها. فالوصول إلى المدرسة التي تؤوي حوالى 15 عائلة سورية يتطلّب تبديل السيارة إلى أخرى ذات دفع رباعي أو إلى"فان"يتحّمل وعورة الطريق. في باب المدرسة التي رممتها جمعية"البشائر"، لكي تصبح مؤهلة لاستقبال عائلات النازحين، يقف"أبو الوليد"مشيراً إلى جبل مقابل قائلاً:"لو لم يكن هناك ضباب لرأيت والدتي تنشر الغسيل على السطح ووالدي يساعدها"، مشيراً إلى مدى قربه إلى بلدته"تلكلخ"التي اضطر إلى النزوح منها. نزلاء المدرسة معظمهم من"تلكلخ"، التي يفصلها عن وادي خالد ومشتى حمود، نهر، قطعه المئات من السوريين على الأقدام، عبر المعابر غير الشرعية، التي كانت تستخدم قبل الأحداث الراهنة، في تهريب السلع الغذائية والمازوت وغيرها. لجوء هؤلاء إلى هذه القرية وجوارها أمر يجده مخاتير القرية وسكّانها من البديهيات، نظراً إلى التداخل الاجتماعي الحاصل بين قرى البلدين الحدودية، إذ لا تكاد تجد منزلاً في مشتى حمود إلاّ وله امتداد عائلي في سورية، أو على الأقل عملاني عبر"التهريب"، المهنة التي كان يعتمدها أهل المنطقة مصدراً أوَّلَ للدخل. وعلى رغم هذا التداخل، يفضل الكثيرون من أبناء"المشتى"عدم ذكر أسمائهم على أنهم حاضنون للنازحين، ومن هؤلاء"جمعيات أهلية"دأبت على مساعدة الأطفال النازحين في أمور تعليمية بحتة. ويفضلون عدم ذكر اسمها تحسباً. ولأن لا أحد منهم يملك جواباً عن سبب حذره، وصولاً إلى ضرورة استصدار تصريح رسمي من مديرية التوجيه التابعة للجيش اللبناني من أجل زيارة الصحافيين، بحجة"حفظ أمن النازحين"وفي بعض الأحيان بحجة"حفظ أمن الصحافيين"، وفي الحالين تبدو الجهة"الخطرة على الأمن غير معروفة"، علماً أن من الصعب على حاجز الجيش التأكد من هوية الراكب أو عمله خصوصاً إذا كان لبنانياً. حصص غذائية تبدو أوضاع النازحين المعيشية"مقبولة"، في ظلّ ما تقدمه الجمعيات الأهلية إلى جانب الهيئة العليا للإغاثة ومفوضية اللاجئين. ويقول رئيس التنسيق الخارجي في الهيئة العليا للإغاثة محمد المملوك، إن تأمين الاحتياجات الأساسية للنازحين شبه كامل، مع بعض الثُّغر التي يتم تداركها، خصوصاً في ما يتعلق بموضوع الاستشفاء. وعن العائلات المستضيفة، وهل تسمح أوضاعها بالاهتمام بهؤلاء، يوضح المملوك أن إحصاء أجري للعائلات اللبنانية التي تعاني الحرمان في المنطقة، وهي كثيرة، تدعم، في ضوئه، بحصص غذائية وقسائم شراء مازوت للتدفئة، ثم إن مفوضية اللاجئين عمدت إلى ترميم بعض البيوت المستضيفة. ويخضع تحديد المحتاجين إلى دراسات ميدانية يجريها موظفو الهيئة العليا للإغاثة ومفوضية اللاجئين، من أجل ضبط حالات من هم غير"مستوفي الشروط"، أو غير مسجلين لدى إحدى الجهتين، في ظلّ تخوّف من استغلال الأوضاع من أجل"سياحة طبية"، أو حتى من جانب عمّال سوريين يعيشون في لبنان منذ مدة طويلة ولا خطر على عائلاتهم إلاّ أنهم قرروا استقدامها من أجل الاستفادة من الوضع. تضج المناطق المحيطة بوادي خالد بالحياة، ولا ينكر أبناؤها تأثرهم الشديد بالأوضاع في سورية، خصوصاً بسبب توقف التهريب، إذ إن مَن لم يكن يمتهن التهريب، كان يعتمد عليه من أجل تأمين احتياجات منزله وعائلته بكلفة أقل. وفي ظلّ الظروف الراهنة، لجأ الكثيرون من أبناء المنطقة إلى العمل ك"مرافقين"للصحافيين، ولا سيما منهم الأجانب. ومنهم مَن يعرض على الصحافي أن يأخذه إلى الجهة المقابلة للنهر، أي إلى"تلكلخ"في مقابل 100 دولار أميركي. ويعمد البعض إلى تأجير شقته مفروشة إلى من يحتاج إليها من المنظمات العالمية أو الرسمية، في مقابل أسعار بدأت متواضعة، وأخذت بالارتفاع بعد تنبّههم إلى أنه"موسم"لا بد من استغلاله. وينسحب هذا الأمر على بعض المستشفيات الخاصة والتابعة لسياسيين عمدت في كثير من الأحيان إلى تضخيم الحالات التي لجأت إليها من أجل استجرار أموال المساعدات. المشهد في مدرسة العبرة، أكثر"رفاهية"، من مدرسة"الرامة"، حيث يزداد عدد النازحين، وتكبر المآسي. فمشهد الحوامل في المدرسة الأولى، يتحول حقيقة في الثانية، إذ وضعت إحدى النازحات طفلاً وهي في شهرها الثامن. مشهد الرضيع ملفوفاً بالإسفنج وبعض الخُرق، يعطي صورة عن واقع مأسوي يعيشه هؤلاء، ولكن لا يلبث أن يتلاشى وقع صغر الطفل، أمام رواية والده الذي يجيب عن الأسئلة في شكل متقطع كمن يسعى إلى إنهاء حديث قبل أن يبدأ. عبارات متقطعة من نوع:"لا إنه طفلي الثاني"."ولد آخر"."عمره ثلاثة"."مات"."مات"."لا مو مريض"."قتلوه"."لأني شاركت في التظاهرات"."قوات النظام"."لأنهم كانوا يريدونني أن أسلم نفسي"."أخذوه رهينة لأسلم نفسي"."رموه مقتولاً على عتبة المنزل عندما لم أفعل"... مع العبارة الاخيرة تكتمل رواية لم يبدُ الأب راغباً في روايتها. العودة الى سورية وقع الرواية على السامعين من نزلاء مدرسة"الرامة"، وهم في معظمهم من أبناء منطقة"العريضة"السورية، فتح الباب على روايات أخرى أجمعت كلها على أنواع التعذيب المعتمد، وتتردد في قاعات بعض المساجد التي تستقبل الهاربين من العازبين، والذين منهم من يقدم نفسه على أنه كان قائد التظاهرة التي سقط فيها خمسة عشر شهيداً، وآخر على أنه هو من قتل والده العجوز ووالدته في محاولة للضغط عليه... في تلك القاعات تحديداً تبدو الصرخة أكثر حدّة وأكثر إصراراً، خصوصاً عندما يبدأ أحدهم بالمزايدة بأنه عائد إلى النضال، فيسارع آخر إلى تأكيد جاهزيته أيضاً... وتتوحّد الوجهة على أن لا عودة إلى سورية قبل"سقوط نظام الطاغية، الذي سيلحق بالقذافي"، والذي"باتت نهايته وشيكة". وشرط عودة الشبان إلى بلدهم لا يختلف عن ذلك الذي يردده أرباب العائلات القابعة في المدارس أو عند عائلات مستضيفة، مؤكدين استحالة العودة، إذ إن مجرد نزوحهم تسللاً إلى لبنان يعني أن لهم ملفّاً أمنيّاً لدى السلطات السورية. التجاوب مع الأسئلة يبدأ حذراً، إلاّ أنه لا يلبث أن يتحول سباقاً على استقطاب الانتباه إلى"شراسة النظام وبلطجيته"... قبل أن يتحول الصخب الى ناحية أخرى، مع وصول شاب راكضاً بين الغرف، صارخاً"حمودة استشهد... طخوه بصدره". ما لا يجرؤ الكبار على قوله الداخلون اضطراراً إلى لبنان من السوريين، يتجنبون الخوض في السياسة أو في الامن، خصوصاً أرباب العائلات منهم، ويفضلون الكلام على احتياجاتهم، على رغم أن الشق الأول هو الذي يجعلهم مادة دسمة للصحافة الأجنبية والعربية. إلاّ أنهم كثيراً ما يدفعون بأطفالهم، والذين يبلغ عددهم 750 من أصل 3643 نازحاً، إلى التحدث للإعلام. تسارع زينب إلى القول: اسألي عن ابنتي سندس وهي تروي لك ما حدث لنا، قبل أن تقول جارتها: ابني عبدالله الأقدر على شرح ما عشناه ليلة هربنا... سندس وعبدالله وشهد وسلاف وأسماء ومحمد وبشار وغيرهم من الأطفال الذين لم يبلغوا العاشرة، يرتادون مدارس المنطقة بإيعاز من وزارة التربية في لبنان، ويعمد بعض الجمعيات إلى مساعدتهم، عبر دروس خصوصية، على الاندماج مع المنهاج اللبناني الذي يختلف اختلافاً جذرياً عن المنهاج السوري، خصوصاً لجهة اللغات الأجنبية. هؤلاء الأطفال يعيشون في ظل ظروف نفسية صعبة، خصوصاً لجهة الاندماج، فتجد الطفل اللبناني يسخر من السوري، لأن الأخير سوري فحسب، والطفل السوري الذي يعيش في لبنان منذ زمن، يسخر من النازح أيضاً، لأنه سوري، وهم أطفال وجد فيهم ذووهم"ناطقاً رسميّاً باسم المأساة". الكلام السياسي الكبير، إلى جانب الشتائم، يولِّدان انطباعين متناقضين، الأول أن الأهل يحتمون بأطفال لن تتم محاسبتهم في حال لم يسقط النظام، أو أنهم يسعون إلى تربية أطفالهم على النطق بحرية لم يختبروها بأنفسهم. يبرز في أقوال الأطفال كمٌّ هائل من الشتائم يصفون به الرئيس بشار الأسد، ولا يكاد يذكره أحدهم من دون ربط اسمه بصفة سيئة. يقول محمد 7 سنوات:"نعود عندما يسقط بشار ويأتون لنا برئيس آدمي". محمد وأسماء يريدان العودة إلى سورية، لأن"هناك أحلى، ولكن منرجع بس يبطلوا يقتلونا"، تقول أسماء. ويتكلم الأطفال على أزلام النظام وعلى الشبيحة، الذين يصفونهم بأنهم"ملثمون ممن دفع لهم بشار الأموال ليقتلونا". يناقش الأطفال في السياسة، ويختلفون في ما بينهم، ويخيف أحدهم الآخر بأن"بشار سيقطع له رأسه لأنه صرّح للإعلام". ويعلو صوتهم في النقاش على اسم الرئيس المقبل، منهم من يعلم أنه حتماً سيكون من المجلس الانتقالي، وآخرون يؤكدون أنه سيكون بعثيّاً منشقّاً، قبل أن تنعتهم مجموعة ثالثة بالكاذبين لأنهم يسعون إلى أخذ السلطة إلى ذويهم إذ إن القائلين بالنظرية الثانية هم من أبناء منشقين عن الحزب، وتتدخل سندس لتنهي النقاش بأن"سعد الحريري سيكون الرئيس"، رافضة أي محاولة إقناع بأن ذلك غير ممكن، إذ إن الأخير لبناني، وتقول"يأخذ لبنان وسورية، فهو ساعدنا على الهرب ويساعدنا في المعيشة بعيداً من الحرب"علماً أنهم، بحسب رواية والدتها، أمضوا 9 ساعات من أجل تسلل آمن إلى لبنان عبر اجتياز النهر. وبالاسترسال مع الأطفال، وفور سؤالهم عن أصدقائهم، يسارعون إلى القول إنهم بقوا في سورية لأنهم"علويون". حجة يكررها الأولاد، وإن سعى بعض الأهل -ظاهريّاً- إلى أن يوقفوهم عن الكلام، إلاّ أنهم لا يلبثون أن يوضحوا كلام أطفالهم:"كانوا جيراننا ونعيش بينهم بطمأنينة، وفجأة وجدناهم مدججين بالسلاح يقاتلون إلى جانب النظام". يحاذر الأهل قبل منح لقب"مشكلة طائفية"على ما يدور في بلدهم من دون أن يتورعوا عن الإشارة إليها في أكثر من مناسبة. ويشتد النقاش بين الأطفال لينقلب عراكاً بسبب الخلاف على عَلَم سورية، فشهد تؤكد أن ثلاث نجوم تتوسطه، في وقت يريد إياد ومعه سلاف أن يقنعاها بأن ذلك العلم هو"علم بشار"وأن للثوار"علماً جديداً... قد يكون بنجمتين".