يعيش الأطفال السوريون في أكثر من محافظة"ساخنة"معاناة متصاعدة من التوتر. يواجهون بأجسادهم الصغيرة وعقولهم البريئة بشاعة عنف، عصي على الفهم، ينعكس في شكل واضح وجلي على عافيتهم ونموهم وسلوكهم وتوجهاتهم. وتجرف حياة هؤلاء الأطفال تطورات أزمة نالت من أمانهم ومن استقرار عائلتهم الاجتماعي والعاطفي والاقتصادي وجعلتهم أكثر عرضة للخطر والاستغلال. وفي حين تنشغل كل فئة من المجتمع ب"همها الخاص"، الأسر مشتتة أو ثكلى، النشطاء منهمكون بالهم العام، والحكومات منصرفة إلى أولوياتها الأمنية، تبقى الفئات الأكثر هشاشة كالنساء والأطفال في مهب الفوضى وضحايا محتملين للعنف والاستغلال والتحرش الجنسي وحتى الاتجار شبه المنظم بهم. الاتجار بالأطفال هو أحد أسوأ أشكال اضطهاد هذه الفئة من صغار السن، ويقدّر عدد الأطفال الذين يتم الاتجار بهم عالمياً، سواء داخل البلدان أم عبر الحدود، ب 1,2 مليون طفل سنوياً بحسب تقديرات منظمة اليونيسف، ويتمّ استغلال هؤلاء الأطفال في البغاء أو جنوداً في الجماعات المسلحة أو يداً عاملة رخيصة أو مجانية أو للعمل خدماً في المنازل أو متسولين. وتقدر المنظمة أرباح استغلال الأطفال جنسياً بحوالى 28 بليون دولار سنوياً، كما تقدر أرباح العمالة الإجبارية بحوالى 32 بليون دولار سنوياً. وينتج الاتجار بالأطفال من الطلب الكبير على يد عاملة رخيصة ومرنة في شكلٍ عام، بالإضافة إلى الطلب المتزايد على الصبية والفتيات الصغار لما يسمى تجارة الجنس، وعلى رغم أن هؤلاء يكونون عموماً أقل إنتاجيةً من الراشدين، إلا أنهم أسهل استغلالاً، وأقل قدرة على المطالبة بحقوقهم. وبالتالي يعملون في ظل ظروف قاسية ويعيشون في شروط لا تليق بالإنسان من دون توفير أي من البدائل المالية أو المعيشية، وتزداد هذه الظاهرة وضوحاً وتفشياً في أوقات الأزمات التي تعمّق من خطورة هذا الاستغلال للطفولة ونتائجه السلبية. بيئة مناسبة للتجارة بالأطفال وإلى جانب تعرّض الأطفال، في حال الاتجار بهم، للعنف والاستغلال الجنسي والإهمال الشديد، فهم يصبحون أكثر عرضة للإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية، كما أنها تنتهك حقهم في التمتع بالحماية والنمو في بيئة أسرية، والحصول على تعليم مناسب. وإذ يعتبر العوز من الأسباب الرئيسية للاتجار بالأطفال، تشكل الأزمات والحروب والركود الاقتصادي وازدياد حالات الفقر وتقليص موازنات خدمات الرعاية الاجتماعية والفساد الإداري والقانوني أسباباً أخرى لاستغلال الصغار، فكثيراً ما يجري إغراء الأطفال بوعود زائفة، عن أعمال جيدة ومريحة في مدن أو دولٍ أخرى تخلصهم من الوضع المتردي الذي يعيشونه، والواقع أنه يجري تبادلهم تجارياً مثل السلع للعمل في ظروف وحشية، ويتعرض الكثير منهم للضرب وغيره من أشكال الإيذاء البدني والجنسي على أيدي مستخدميهم. وبينما تغيب الإحصاءات الرسمية في سورية عن جرائم الاتجار، إلا أن وصول أعداد كبيرة من اللاجئين العراقيين منذ عام 2005 وازدياد ظاهرة استقدام العاملات الأجنبيات من دون مظلة قانونية، جعلا الكثير من هؤلاء فئات مستهدفة ولقمة سائغة لدى مجرمي الاتجار وبالفعل تم تسجيل حالات اتجار متعددة وبشكل خاص للأطفال العراقيين اللاجئين أو"الضيوف"كما التسمية الرسمية. وتتسع اليوم دائرة الخطر، وقد بدأت تشمل بعض الأطفال السوريين وكثير منهم أصبح ضحية اتجار حقيقي دولي أو داخلي بين محافظته أو قريته المنكوبة وبين المدن الكبيرة أو العاصمة، حيث يتسول العديد منهم يومياً في الشوارع بحثاً عن عمل أو مأوى وسط إهمال الجهات المختصة ما يجعلهم فريسة سهلة، إذ أن"تجار البشر"غالباً ما ينتظرون تشكل ظروف الطوارئ وانشغال الجميع بأولويات أخرى لاقتناص الفرص وللتحكم من قبل مجموعة لا ضمير لها، بمستقبل أبرياء صغار وبأسعار مغرية. ولعل الجدير بالذكر أن سورية تبنت قانوناً خاصاً يعالج جريمة الاتجار بالأشخاص، بشكل عام مع تركيز كبير على الأطفال وذلك من خلال المرسوم التشريعي رقم 3 لعام 2010 الذي فرض عقوبات قاسية بحق المجرم تصل إلى الاعتقال الموقت لمدة لا تقل عن سبع سنوات والغرامة من مليون إلى ثلاثة ملايين ليرة سورية، بحق مَن يرتكب جريمة من جرائم الاتجار بالأشخاص أو يشارك أو يحرض أو يتدخل فيها، والأهم تشديد العقوبات إذا كانت الجريمة ضد النساء أو الأطفال. ويعتبر هذا المرسوم أول احتكاك قانوني مباشر بهذه الجريمة التي تعتبر الأقل معاقبة في العالم، بحسب تقارير عالمية أكدت أنه لا تتم سوى معاقبة مجرمين عن كل خمسة آلاف جريمة اتجار بالبشر حول العالم. ولا يزال المجتمع السوري وغيره من المجتمعات العربية تجهل الكثير عن عمق هذه المشكلة ومدى تأثيرها ليس فقط على مستقبل الأطفال بل أيضاً على المجتمع المرتبط بهم، وهناك اعتقاد خاطئ بأنها لا تزال ظاهرة محدودة في الحياة اليومية، وأنّها حالات استثنائية في مناطق استثنائية. بينما تنال الظروف الاستثنائية العنيفة التي تعيشها سورية من التطور النفسي والبدني للأطفال في شكل عام، يقع بعض هؤلاء الصغار ضحايا اتجار قاسٍ، وتصبح هذه البيئة الخطرة مرتعاً خصباً لافتراس المزيد من الضحايا وإجبارهم على دفع الثمن مضاعفاً.