حين وصلتُ الى طرابلس إثر تحريرها في آب أغسطس الماضي، قال لي الليبيون، جواباً على مقارنتي بين اوضاع كابول في 1992 وبين طرابلس اليوم، إن النقاط المشتركة بين أوضاع بلدهم وأفغانستان معدومة. لا شك في أن أوجه الاختلاف كبيرة بين ليبيا وأفغانستان، جغرافياً وسكانياً ولغوياً، ولكن هل تُنذر الروابط المباشرة بينهما - وقوامها الصلات بالمقاتلين الإسلاميين - بأنهما سيلقيان مصيراً واحداً متشابهاً؟ أمام الليبيين اليوم فرصة لصوغ مستقبل مختلف عما آلت اليه الامور في كابول بعد"التحرير"، فموت القذافي منعطف كبير، وهو أرسى نظاماً شخصانياً، وانهيار نظامه السريع يقوض احتمال مواجهة سلطات الثورة تمرد الموالين للعقيد. والحق أن سيطرة المقاتلين على طرابلس كانت منظمة ومن غير اراقة الدماء، وهذا أمر ملفت بعد عهد نظام دموي أحكم الخناق على البلاد طوال 42 عاماً. ورغم إصابة بنى العاصمة الليبية التحتية بدمار طفيف، سرعان ما أرسي الامن فيها، ووصلت بعد ثلاثة أسابيع على تحريرها إلى استقبال الرئيس الانتقالي مصطفى عبد الجليل، وهو رافع لواء اسلام معتدل، استقبالَ الأبطال في ساحة الشهداء. في الاحتفال، لم تفرض قيود أمنية مشددة، وتجولت النساء الاطفال بحرية بين الحشود، والموسيقى كانت تصدح في الشوارع، وعرض البائعون المتجولون على بسطات مرتجلة أكواباً"ثورية"وقمصاناً تحمل شعارات الثورة. الاجواء هذه كانت توحي بحفل لموسيقى ال"بوب"أكثر مما توحي بأنها أجواء حفلة انتصار عسكري. جُلْتُ طوال أيام في شوارع طرابلس، ولاحظت عودة الحياة الى وتيرتها اليومية: الشوارع مزدحمة والعمل عاد الى شبكة الاتصالات، وازدهرت مقاهي الأرصفة. ما رأيته كان مختلفاً عن مشهد كابول 1992، فالمقاتلون أقاموا يومها الحواجز المسلحة لإحكام القبضة على المدينة، واستولوا والميليشيات الحكومية السابقة على المباني الحكومية غنيمةً، لإبراز نفوذهم، ونهبوا مبنى الاممالمتحدة، وجال فيه المقاتلون من أبناء الجبال منتشين بمكانتهم الجديدة، فهم الحكومة، على قولهم. في زيارتي طرابلس وضواحيها في ايلول سبتمبر الماضي، اكتشفت أن الليبيين، شأن الافغان في 1992، لا يُجمعون على رواية سيرة النصر، وأن رواية تحرير طرابلس على وجه التحديد، هي موضع نزاع، فثمة رواية واحدة تُجمع عليها ثلاث مجموعات من ثوار المناطق الشرقية الذين دخلوا طرابلس: مجموعة محور بنغازي، والمجموعة المقاتلة على محور جبال نفوسة في الغرب، والمجموعة التي كسرت الحصار في مصراتة في محور الوسط، وهي رواية مقاتلي الارياف الذين نجحوا في تحرير العاصمة: عشرات الفرق العسكرية والوحدات المؤلفة من نحو 600 رجل خاضت حرباً دامية طوال 6 اشهر وحققت النصر. وأطلقت هذه المجموعات أسماء أبطال ثوريين على فرقها العسكرية ووحداتها، وأنشأت صفحات على موقع الفايسبوك. ويصف المقاتلون وصفاً فخوراً تحرير طرابلس بأنه فتح قلعة القذافي، باب العزيزية. لكن سكان العاصمة يخالفون هذه الرواية ويقولون إنهم خاطروا بحياتهم، وناضلوا في الخفاء طوال أشهر، وأنشأوا غرف عمليات. وفي تمام الساعة الثامنة مساء 20 آب اغسطس الماضي، خرجوا الى العلن، وسيطروا على شوارع العاصمة، وشلّوا حركة أنصار العقيد. ويخلص هؤلاء الى أنهم، أي أهالي طرابلس، هم من حرروها. لا يمكن الاستهانة بتباين الروايات الثورية، فمستقبل ليبيا السياسي هو رهن التوفيق بين الروايتين. سارع المسلحون الى انشاء مراكز أمنية حول المواقع الاستراتيجية في المدينة، وأعلنوا عزمهم على تطهيرها من القذافيين، لكن سكان طرابلس يدعون الى انسحاب المقاتلين من مدينتهم، ويقولون إنهم يرفضون أن يتولى أبناء المناطق الاخرى عمليات تطهير المؤسسات الحكومية، ويرون أن طرابلس مدينتهم وأنهم الأولى ببناء مستقبلها. وثمة أوجه شبه بين توافد المقاتلين على طرابلس من المحافظات وحوادث كابول، فالتنافس على السيطرة على المواقع غرب كابول أطلق شعلة النزاعات في حزيران يونيو 1992، وعدد كبير من قادة المقاتلين القادمين من المحافظات رأوا أن عادات سكان المدينة منحلة وتشبه عادات النظام القديم، فتدهورت الاوضاع الامنية وتفاقمت النزاعات وانزلقت الى حرب أهلية دامت ثلاثة أعوام. وتنسب حركة"طالبان"الى نفسها الفضل في انهاء الحرب الاهلية وارساء الامن في كابول يوم سقطت في يدها. والى اليوم، لم يفتر الشعور بأن هدف الثورة مشترك، وحَمَل الشعورُ هذا المعسكراتِ المختلفةَ على السعي الى بلوغ مصالحها سلمياً في النظام الجديد. وإذا نجح جليل في ارساء نظام اسلامي معتدل، ووفَّق بين مطالب الثورة الليبية المختلفة، واستفاد من مكانة ليبيا الدولية الجديدة، وسع اصدقاء بلحاج القدماء القادمين من افعانستان، تجاوُزَ النزاع المسلح الى المشاركة في العملية السياسية. وحري بسلطات الثورة اطلاق عملية سياسية إدماجية. * باحث عمل في أفغانستان طوال أكثر من عقدين، عن موقع"فورين أفيرز"الاميركي، 21/10/2011، اعداد م.ن.