- 1 - هل يكرِّر التاريخ نفسه؟ لا. لكنّ للتاريخ إيقاعاً دونما شكّ، وقد يتخذ هذا الإيقاع صورةَ عودة إلى ما مضى في تجلٍّ ما من تجلّيات الحياة في مجتمع أو أكثر، لكن الصورة تكون جزئية أو تتعلق بالمسار العام والهيئة والمحيا، من دون أن تكون نسخة دقيقة للماضي. وقد ينعكس ذلك في مقولة أو سلوك أو نظام من المعتقدات والقيم، لكنه لا يتجسد في صورة كلّية ودقيقة باعثة لما كان قد جرى. وقد ينعكس ذلك في هيئة استعادة لموقع القوة، وابتكار المعارف، وإبداع مكوِّنات حضارية تثري الفضاء الحضاري الإنساني عامةً من حيث هو عطاء مترافد للإنسان في تاريخه الكلّي. وموقع القوة الذي أعنيه مرتبة في التحضُّر والقوة العسكرية والسياسية والإنتاجية، علمياً واقتصادياً ومعرفياً وثقافياً وعمرانياً. وهو موقع نسبي، بمعنى أنه يتحدد بالقياس إلى مواقع الآخرين ومراتبهم، ولا يتجلّى في صورة مطلقة. وبمثل هذا التجلّي قد يبدو أن التاريخ يكرِّر نفسه. لكنه، كما قلت، لا يفعل. لكن، هل ل"الحضارة"دورة؟ هل هي مسار متصل لا انقطاع فيه، تنتقل من مكان إلى آخر لأسباب قابلة للتحديد؟ بل هل ثمَّةَ"حضارة"أم"حضارات"؟ وهل الحضارةات عضوية تولد وتنمو وتذبل وتموت كما تفعل الأجسام الحيّة؟ أم أن كلّ هذه التساؤلات عبثٌ لا طائل وراءه، وكلّ ما أتى به مفكرو الحضارات، من اشبنغلر إلى توينبي ثم ? حديثاً - صامويل هنتينغتون وفرانسس فوكوياما، ممّا ينتمي إلى التفكير الماورائي الميتافيزيقي الذي لا يختلف في الجوهر عن الميتافيزيقيا الدينية المتعلقة بوجود الإنسان في العالم، وبالخلق ونهاية الإنسان في يومٍ للقيامة وزمنٍ رغدٍ أبديٍّ للصالحين؟ - 2 - في ضباب الذاكرة أنني حين كنت أعمل أستاذاً في جامعة كولومبيا في نيويورك قرأتُ عام 1991 في ما أظنّ مقالة أدهشتني ببراعة التأملات المستقبلية التي انطوت عليها. ويحزنني أنني لم أعد أذكر اسم الكاتب أو عنوان المقالة أو أيّ تفصيل عنها يساعد على العثور عليها من جديد لتوثيق ما أكتبه الآن والتدقيق فيه. وأظن أن المقالة نشرت في"نيويورك تايمز"أو في ملحق الكتب الأسبوعي لها. وأظن أن اسم الكاتب ياباني - وقد يكون فوكوياما وقد لا يكون. وفحوى الأطروحة التي تضمنتها المقالة باهر وفاتن وهو بالإيجاز الذي أحتفظ به في ضباب الذاكرة أن الحضارة أو الحضارات، لا أذكر ترتبط وجودياً بالبحار، وأنها في مسارها التاريخي تمثل انتقالاً من بحر إلى بحر يكتسب أهمية أعظم من سابقه. وقد تشكلت الحضارة حول حوض البحر المتوسط ممثلة بالدول التي تقع حوله والتي اكتسبت مواقع قوة عظيمة، ثم انتقلت إلى حوض المحيط الأطلسي متمثلة في صعود دول طرفي الأطلسي إلى موقع القوة عالمياً. ثم يتكهّن الكاتب ? وذلك للتذكير حوالى عام 1991 ? أن الحضارة ستنتقل إلى حوض المحيط الهادي وأنها تتمثل في كاليفورنيا واليابان. ولقد أغوتني هذه البراعة التأملية وأغرتني. وليس في ذاكرتي أن الكاتب يذكر دولاً أخرى على طرف المحيط الهادي مثل كوريا والصين. لكنه قد يكون فعل ذلك وطوى النسيان في ذاكرتي ما قاله. فكرة جميلة وبارعة. وأظن أنها قد استندت إلى تغير طبيعة القوى الفعالة في اكتساب المجتمعات للقوة والقدرة على توليد الحضارات، وهي تنبني على أن القوة القادمة سيكون مصدرها الثورة المعلوماتية التي كانت قد بدأت تبرز بعض ملامحها. وكان ذلك في ما أظن قبل ولادة الإنترنت أو مزامناً لهذه الولادة وكان استخدام الكومبيوتر في حينها في بدايات الطفولة. - 3 - كنت وقتها عميقَ الانشغال بالصين بسبب انشغالي بأفكار ما وتسي تونغ وما سيحدث للماركسية في الصين بعد أن انهار النظام الشيوعي في الاتحاد السوفياتي وبدت روسيا مخلخلةً على وشك الانهيار. وقد بدا لي أن الصين على وشك أن تزمجر وتنهض. وبعد زمن قصير نشرتُ كتاباً بالإنكليزية كان أصله المحاضرة التدشينية التي ألقيتها في جامعة لندن بعد انتخابي أستاذاً لكرسي الدراسات العربية فيها عام 1992. وفي تلك المحاضرة وفي مقالات نشرت قبلها وبعدها تكهنت بعدد من الأمور، بينها أن الصين ستبرز على مسرح القوة في العالم في القرن الحادي والعشرين، وتكون قوة عظمى، فيما تنحسر وتتدهور الولاياتالمتحدة، وبينها أن فكرة المركز الواحد التي كانت"الحقيقة"الواضحة وقتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وبقاء الولاياتالمتحدة القوة العظمى الوحيدة ستنهار وسيشهد العالم نشوءاً لتعدّد في المراكز منها اليابانوالصينوروسيا وأوروبا، والهند وأميركا الجنوبية، وبينها أن الوحدة الأوروبية التي كان مخططاً لها أن تعلن عام 1996 لن تحدث. وقد بدت هذه التكهّنات غريبة في ذلك الوقت، وعاتبني بعض الزملاء على المجازفة بإعلانها! غير أن عبور السنين جلا حتى الآن أنها لم تكن تكهنّات ضالة تماماً، وأن ما رسمَتُ خطوطاً شاحبة له أصبح أكثر بروزاً ونصاعة حتى ليكاد أن يكتسبَ حدَّةَ وضوحِ الحقيقة والواقع. فلقد تحولت الصين خلال عقدين من الزمان تحولاً مذهلاً، وأصبحت على كلّ صعيد تقريباً قوة عظمى. وبرزت مراكز جديدة في العالم، فعادت روسيا إلى معظم ما كانت عليه وفاقته، وبرزت البرازيل قوة اقتصادية جديدة ضخمة، وانبثقت الهند من عباءات الفقر والتخلف المادي لتصير بين أول دول العالم من حيث معدلات النمو والتقدم العلمي والتقنوي. ولا تزال كلّ من هذه المدارات آخذة بالتكامل بقوة أعظم ونصاعة أشد. بل حدث أكثر من ذلك. ففي المنطقة العربية عادت قوتان اثنتان لتحتلا مركزاً مفاجئاً بسرعة غريبة: إيرانوتركيا. وفي أحداث الثورة والبحث عن حياة جديدة يكاد ما يحدث في العالم العربي أن يحتل واجهة الأخبار العالمية كلّ يوم ويُتخَذَ أنموذجاً جديداً للثورة على الطغيان وواحدية الفكر والسلطة. - 4 - قلت إن التاريخ لا يكرِّر نفسه، لكنّ للتاريخ إيقاعاً. وسأضيف الآن أن للتاريخ إيقاعاً لا على مستوى الزمان فقط، بل على مستوى المكان. للتاريخ إيقاع مكانيٌّ لا إيقاع زمانيٌّ وحسب. لقد اعتدنا على تصور التاريخ ظاهرة زمانية، لكن التاريخ في الواقع ظاهرة مكانية أيضاً. أي أن التاريخ حركة في المكان لا حركة في الزمان وحسب. التاريخ بهذا المعنى يكرِّر نفسه، لكنه لا يكرِّر أزمنته بل يكرِّر أمكنته. لكأنما التاريخ يحنّ إلى المكان الذي نشأ وترعرع فيه، وفيه ازدهر واغتنى وصار حضارة. لكنّ قولنا"التاريخ"يعني قولنا"الإنسان في فاعليته في المكان". الإنسان إذن هو الذي يحنُّ إلى أمكنة ازدهاره وخلقه للحضارة. لنتأمّل الآن المكان الذي بلغت فيه فاعليةُ الإنسان في المكان ذرى من عظمتها فصارت حضارات. الهلال الخصيب العراق وسورية الكبرى مصر تونسالصينالهند بلاد فارس، اليونان، روما، القسطنطينية. هذه أبرز مواقع التاريخ: مهاد الحضارات ومكان تأوِّجها ثم بقاع في أميركا الجنوبية أقلّ قدماً. مع احترامي العميق لأماكن أخرى في أفريقيا وأستراليا وأميركا الجنوبية ونيوزيلندا لها كلّها تاريخها الحضاري، لا أعرف الآن ما يكفي عن حضاراتها لأضيفها إلى مهاد التاريخ وأمكنته المبكِّرة. ولنتأمّل التحوّلات التي تجري في العالم المعاصر: حركة التاريخ الآن- أي فاعلية الإنسان في المكان في حركة اندفاعية- بالغة الوضوح والقوة في هذه المواقع: الصين، الهند، إيران، تركيا، مصر، تونس، سورية، العراق الهلال الخصيب والبرازيل؟. أليس كلّ من هذه البلدان مهدَ حضارة ازدهرت وفاضت عطاء وتبرّجت قوةً وانتصاراتٍ ذات يوم غابر ضارب في أعماق التاريخ الحضاري للبشر؟ بلى، وأيم الحقِّ، إنها. أوَ لم تنشأ هذه الحضارات وتزدهر وتعطِ من فيضها بهذا التراتب ذاته، وفي مراحل تاريخية متقاربة أو متعاقبة؟ بلى، وأيم الحق، لقد فعلت. أليس هذا مدهشاً بحقّ؟ بلى إنه. ألم تتجلَّ حركة التاريخ - في المنطقة التي تضمّ العالم العربي - في الجزيرة العربية والعراق وبلاد الشام وفي قرطاجة وفي مصر؟ أوَلم يبدأ الثراء العربي واكتساب قوة اقتصادية وعمرانية في الواقع المعاصر في الجزيرة العربية؟ وما دلالة بروز تركياوإيران فجأة قوتين رئيسيتين في منطقتنا؟ وما دلالة أحداث مصر وتونس؟ هل كلّ ذلك عارضٌ وفارغٌ من الدلالة على احتمالات مستقبلية، أي على احتمال أن يكون التاريخ يتمخَّض، في حنينه إلى أماكن ازدهاره المبكّرة والقديمة، عن بشائر انبثاق فاعلية الإنسان من جديد في هذه الأماكن؟ - 5 - أفيُعقل أن تكون ثمَّةَ حياة خفيّة تنسرب في أعراق التاريخ، أو في أعراق المكان، تخمل وتغيب في الأغوار ثم يأتي زمنٌ تنبجس فيه أمواهها دفّاقة من جديد على وجه الأرض لتغمرها خصباً؟ أفيُعقل أن نكون الآن شاهدين على بداية سلسلة من الانبجاسات الحضارية تجدِّد ما كان قد عفا أو آل إلى قدامة بائسة، فنشهد صعود الصينوالهند في مرحلة أولى ثم إيرانوتركيا في مرحلة ثانية ثم العالم العربي في مرحلة تالية؟ أم أن هذا كلّه من التأمل الميتافيزيقي للتاريخ والمواهمة السرابية للأحداق التي ترى ما تراه؟ أسئلة تنتظر المستقبل لتتبلور لها أجوبة أو بعض أجوبة. لكنها أسئلة تستحقّ أن نتأمّلها الآن بكثير من الترقب وبقدر معقول من الأمل. - 6 - التاريخ لا يكرِّر نفسه: والحضارات لا تدور كالفصول، وليس ثمَّةَ دورة للحضارة. لكن قد تكون للحضارات"أدوار": الحضارات العريقة التي رسخت وصمدت في مجرى التاريخ ومهبِّ عواصفه، وكانت أيامَ زهوها ينابيعَ عطاء، وذرى إنجازات فكرية وأخلاقية وعلمية وإبداعية- ثقافية، قد تملك جذوراً قابلة لأن تعود للحيوية بعد خمول، والنموِّ بعد ذبول، واليناعة بعد جفاف. وقد تكون بهذه الجذور والنمو قادرة أن تجدّد ينابيعَ قوتها وتدفقها فتعود لتلقي بوارف أغصانها وجزيل ثمارها على دروب التاريخ، وتسمو لتحتلّ موقعاً مركزياً في سياق العالم الذي تعيش فيه، والحضارات التي تتزامن معها، ومعها تتنافس وتتصادم أو تتناسج وتتواشج. وإن غداً وبعدَ غدٍ وبعدَ بعدِ غدٍ لِناظرها لَقريبات. أكسفورد، أيلول / سبتمبر 2011 * أستاذ في جامعة لندن