كان ظهر يوم السابع عشر من كانون الأول (ديسمبر) 1960 في مدينة ميونيخ الألمانية قارس البرودة، والشوارع مدفونة تحت طبقات من الجليد بعد هطول كثيف للثلج. لا تجد أناساً يتمشون، بل افراداً هنا وهناك يحاولون الولوج الى المباني المدفأة هرباً من هذا الجحيم الثلجي. كان الطالبان العراقيان، نوري وهشام، يمشيان بحذر، لئلا يتزحلقان على الثلج، باتجاه محطة الترام في منطقة لودفيغسفورشتات، للذهاب الى سكن طلاب جامعة لودفيغ ماكسيمليان، حيث يحضران الدكتوراه في الرياضيات. كانا ناقمين على وزارة التعليم العراقية لإرسالهما الى هذا البلد الثلجي، وما ان زاد نوري من سرعته حتى انزلقت قدمه وسقط على الأرض وسط ضحك هشام. كان هشام يخطط لإنهاء رسالة الدكتوراه خلال شهرين ليعود الى العراق الحبيب ويتزوج خطيبته التي طال انتظارها له، خصوصاً ان والديها أخذا يظهران انزعاجهما من طول الانتظار. اما نوري، فسينهي رسالته بعد عام، وكل ما يريده هو ان يكون استاذاً في جامعة بغداد. بادر هشام الكلام: - ها قد وصلنا الى محطة الترام. - لا أشعر بقدمي. - واذا تأخر الترام فلن نشعر بأدمغتنا. - ها هو الترام في الموعد المحدد. ركض الاثنان الى داخل الترام الدافئ، إلا أنهما لم يجدا مقعداً واحداً خالياً فرضيا بالبقاء واقفين. كان الترام مكوناً من عربتين خصصت إحداهما للمدخنين. وقف الاثنان في عربة غير المدخنين، فقال هشام: - يجب ان أدخن سيجارة. - ماذا؟ في وسط هذا الزحام. ستقضي عليك هذه السجائر فأنت تدخن علبتين كل يوم. - نعم، فالسجائر متعتي الوحيدة في غياب الأهل وخطيبتي، وهي خير رفيق في وحدتي، أتريد ان تحرمني من هذا أيضاً، كما انني في أفضل حال. - حسنا، أنا باق هنا، اذهب وحدك. ذهب هشام الى عربة المدخنين بسرعة. مرت الدقائق ونوري غارق في أفكاره، فقد وصل الى مرحلة حرجة من بحث الدكتوراه ولا يعرف كيف يحل هذه المعضلة. أخرجه من بحر أفكاره دوي غريب بدا وكأنه قادم من خارج الترام، واستغرب نوري مصدره. وفجأة سمع صوتاً عالياً ووجد نفسه في ظلام دامس وأخذ يفقد القدرة على التفكير، وكان هذا آخرَ ما يتذكره. فتح نوري عينيه ليجد نفسه أمام فتاة شقراء جميلة، واحتاج الى بضع ثوان ليدرك انه مستلق على سرير المستشفى وان الشقراء ممرضة، كان سؤاله الفوري: «ماذا حدث؟»، فأجابت الشقراء بابتسامة رقيقة: «لا تقلق، انك على ما يرام، لقد سقطت طائرة عسكرية بسبب خلل فني وأصابت الترام. للأسف الشديد، قُتل جميع من كانوا في عربة المدخنين». زيد خلدون جميل - كاتب عراقي (فرانكفورت) - بريد الكتروني