ثلاث مناسبات تجمعت معاً في المسار المهني للمخرج الأميركي الاستثنائي، تيم بورتون، خلال الآونة الأخيرة، لتضعه في واجهة الأحداث السينمائية في العالم. فمن ناحية هناك العرض الأول لفيلمه المعلن عنه منذ زمن طويل،"أليس في بلاد العجائب"على مستوى العالم. ومن ناحية ثانية هناك إعلانه، وسط صخب إعلامي كبير ان فيلمه التالي سيكون مقتبساً من رواية في حكايات الجن الشهيرة هي"الحسناء النائمة في الغابة". أما من الناحية الثالثة، فإنه سيترأس لجنة تحكيم المسابقة الرسمية في الدورة المقبلة لمهرجان"كان"السينمائي في الجنوب الفرنسي أواسط أيار/ مايو المقبل. وإذا كان هذا"الحدث"الأخير سيمضي في تكريس بورتون، كواحد من أكبر المخرجين العالميين في عالم سينما اليوم. بعد ربع قرن من جهود سينمائية مدهشة، فإن فيلمي بورتون، الأخير والمقبل، يؤكدان صواب اختيارات هذا الفنان الذي لا يتوقف منذ زمن بعيد عن"إعادة زيارة"الأساطير والحكايات المعروفة كي يجعل منها أعمالاً سينمائية تنضح بالجديد، حتى وإن كانت معروفة. وذلك في وقت يعرف فيه بورتون انه، حين يقدم، في فيلم من أفلامه التي يحققها بما يشبه الانتظام منذ سنوات، موضوعاً جديداً لم يسبق لأحد ان طرقه من قبل، سواء كان هذا الموضوع صمم مباشرة للسينما، أو اقتبس من عمل أدبي معين، فإن معنى هذا انه يفتح امام السينما طريقاً جديداً، ويخوض أجواء وأفكاراً ويرسم شخصيات من الصعب تصور انه كان لها سابق في الفن السابع. ولنتذكر هنا ? على سبيل المثال ? أفلاماً له مثل"السمكة الكبيرة"أو?"تشارلي ومصنع الشوكولا"، أو حتى واحداً من افلامه الأخيرة"سويني تود... حكاية حلاق فليت ستريت". لم يعد سهلاً اليوم وضع لائحة شاملة بأفلام تيم بورتون في مقالة سريعة مثل هذه. ذلك ان هذا الفنان الطريف والغريب الأطوار لا يتوقف عن العمل منذ ظهور افلامه الأولى، ولا سيما ذاك الذي أثار، يومها، في وجهه، كثيراً من التهكم ونعني به"بي وي ومغامرته الكبرى"1985... ذلك الفيلم التهريجي الذي لم يؤشر أبداً، قبل ربع قرن، ان مخرجه سيكون ذا شأن في السينما الأميركية، بل اكثر من هذا: في السينما العالمية. ولكن بعد ذلك بثلاث سنوات، أعاد بورتون الكرة في فيلم تالٍ له هو?"بيتلجويس"1988، الذي بدا مختلفاً كلياً عن الأول فاتحاً آفاقاً جديدة امام نوع من سينما الرعب ممزوج بما تيسر من مزاح مرح، صار منذ ذلك الحين علامة أساسية من علامات سينما بورتون. حيث لدينا في هذا الفيلم زوجان ميتان، يضطران الى اختراع شراب الصراصير بيتلجويس، كي ينفّرا كل من يحاول السكن في بيتهما وطرده. مع هذا الفيلم المبكر إذاً، كان في وسع سينما تيم بورتون ان تنطلق انطلاقتها الفعلية محددة ملامح تجمع بين الغرابة الفانتازية وأقصى درجات السخرية والتهكم، الى درجة انه حتى حين راح هذا المخرج يحقق افلاماً تتسم بشيء من الجدية، أو أفلاماً أخرى تنتمي الى مسلسلات سينمائية معروفة، أو مستقاة من شرائط مصورة، كان لا بد لكل تلك الأفلام ان تصبح جزءاً من عالمه الخاص ناهيك بأنها راحت بسرعة تبدو مميزة عن أفلام من نفس السلاسل حققها آخرون. نقول هذا هنا ونفكر، طبعاً، بفيلمين من سلسلة"باتمان"اختير بورتون لإخراجهما، وحتى للإشراف على كتابة السيناريو لكل منهما، فإذا بهما ? من دون ان يبارحا عوالم باتمان الأصلي كما رسمت في كتب شرائط وحكايات لا تحصى ? يصبحان وكأنهما جزء أساسي من السينما التي تضم غرائب أفلام بورتون، من"إدوار ذي اليدين المقص"1990، الى"تشارلي ومصنع الشوكولا"، مروراً بأعمال مثل"الكابوس قبل عيد الميلاد"1993 و?"مارس يهاجم"1996 ولا سيما"تيم بورتون والزوجة الجثة"2005. وكلها افلام يختلط فيها الموضوع الجدي اللئيم غالباً، بتقنيات التصوير، حيناً بالكاميرا وأحياناً بالرسوم المتحركة، وتتحرك فيها شخصيات يدهش المرء من اين جاء بها بورتون على هذه الشاكلة، إنها شخصيات تبدو في الوقت نفسه مثيرة للضحك ومثيرة للرعب. سخيفة حيناً وشديدة الذكاء في أحيان أخرى، مرات تنتمي الى أسمى درجات البطولة، وفي مرات نجدها ? هي نفسها ? من الضعة بحيث ندهش عما فكرنا فيها قبل ذلك. لكنها جميعاً وفي لحظات معينة تتسم ببراءة تقول غرابة الإنسان في مروره بهذا الكون. عوالم مدهشة غير أن هذا التوحد بين معظم السمات التي تطبع شخصيات سينما تيم بورتون، لا يمنع لديه من وجود تنوع مدهش، ولا سيما في الأجواء والمواضيع. تنوع يجعل من العسير على أي كان ان يتوقع ما الذي سيكون عليه فيلمه المقبل. لكنه ايضاً تنوع يخلق إلفة بصرية مدهشة مع الشخصيات، حتى من قبل عرض الفيلم ? أي فيلم له ? بزمن طويل. ان السعي الى هذه الإلفة يتسم طبعاً، في المقام الأول، بصفة ترويجية، بمعنى ان بورتون، الذي كان بدأ حياته المهنية رساماً، وتقنياً في عالم الرسوم المتحركة ? لدى ديزني بخاصة ? يدرك تماماً ما أهمية اللغة البصرية في اجتذاب المتفرجين، لكنه يدرك في الوقت نفسه ان عوالمه من الغرابة بحيث إن مشاهدة فيلم من افلامه قد تشكل مغامرة ملتبسة أو مبهمة لمن يدخل الى الصالة من دون ان يكون مزوداً سلفاً بمعرفة ? ولو سطحية ? بشخصيات الفيلم. لذا يبدو هنا، حتى خارج الإطار الترويجي، كمن يخلق تواطؤاً مسبقاً بينه وبين جمهوره. وهكذا، بالنسبة الى الفيلم الأخير"أليس في بلاد العجائب"، كان بورتون يعرف انه حتى وإن كانت الرواية معروفة وعلى نطاق شامل تقريباً، منذ أكثر من مئة عام، فإن تقديمه شخصياتها وأجواءها ? وهو تقديم جديد كلياً على عالم السينما - قد يكون من شأنه ان يخلق صدمة كبرى إن لم تكن له مقدمات. ومن هنا ? وقبل شهور عدة ? راحت الصحف والمواقع الإلكترونية تمتلئ بصور مستقاة من الفيلم، ولا سيما صور لنجم الفيلم جوني ديب، يحتاج المرء دقائق قبل التعرف إلى هذا الأخير فيها، هو الذي يلعب دوراً اساسياً الى جانب أليس نفسها ميافاسيكونسا والملكة الحمراء هيلينا كارتر بوهام زوجة بورتون في الحياة وبطلة العدد الأكبر من أفلامه". والحقيقة ان بورتون، ومهما كان من شأن"اليس في بلاد العجائب"ان يبدو ? راجع مكاناً آخر في هذه الصفحة ? بالمقارنة مع عشرات الأفلام السابقة التي حققت على مدى تاريخ السينما اقتباساً من رواية لويس كارول الشهيرة، حقق الفيلم ليبدو في النهاية، الفيلم الأقرب الى أصل الرواية، ولا سيما الى أجوائها، ذلك كما يمكننا ان ندرك اليوم، أن"أليس..."هي رواية أجواء فانتازية قبل أي شيء آخر: رواية يصبح فيها الموضوع، ذريعة للشكل، لا العكس. وإذا كان كل الذين قدموا الرواية، سابقاً، في فيلم من الأفلام، ركزوا على جوهرها ومضمونها، الأخلاقيين بخاصة، باعتبارها رسالة ما، في العصر الفيكتوري، فإن بورتون وجه نظره ناحية أخرى: فعل ليس كما فعل السينمائيون، بل رسامو الشرائط المصورة الذين تعاملوا مع هذا العمل: بدّى الأجواء الساحرة على أي شيء آخر. ومن هنا استحق الفيلم ان يقدم تقديماً ثلاثي الأبعاد. واقع أكثر جمالاً نفس هذا التركيز نراه، على أية حال، حاضراً في العديد من أعمال تيم بورتون السابقة، والتي اقتبست عن مصادر أخرى ولا سيما غير السينمائية: مثلاً فيلمه"إد وود"1994 عن حياة ذلك المخرج إدوارد وود، الذي يعتبر أسوأ مخرج في تاريخ الفن السابع، حيث أبدع في رسم برّاني مدهش للشخصية التي لعبها، ايضاً جوني ديب. أو فيلم"سويني تود"المقتبس عن مسرحية كوميدية موسيقية اقتُبست بدورها عن أحداث حقيقية عرفتها لندن أواخر القرن قبل الفائت، عن حلاق راح ورفيقته يقتلان زبائنه محولين جثثهم سندويتشات شيقة! والحال ان تيم بورتون، ودائماً هنا شراكة مع ممثله المفضل جون ديب، أوصل كل تلك الغرابة المازجة بين أقصى درجات الرعب وأقصى درجات المرح والتهكم، الى الذروة، في فيلم"سليبي هالو"المقتبس عام 1999 عن رواية كلاسيكية غوطية معروفة لواحد من مؤسسي الأدب الأميركي، واشنطن ارفنغ. هنا في هذا العمل، حول تيم بورتون الأحداث الإجرامية الى موضوع جعل بطله المحقق الشاب الآتي من نيويورك يغوص فيه فيبدو سخيفاً ومضحكاً امام سكان يتداولون فيما بينهم حوّل خلفيات الجرائم جملة أساطير اهمها حول شجرة يطلع منها ? ليقترف جرائمه - الفارس البلارأس، الذي سيكون على التحري مجابهته في نهاية الأمر. هنا في هذا الفيلم حوّل بورتون الأسطورة الى جو واقعي، استحوذ في نهاية الأمر على المتفرجين جاعلاً إياهم يصدقون كل الحكاية. وعلى العكس من هذا نرى بورتون في فيلم لاحق له ? قد يكون على اية حال واحداً من أجمل أفلامه وأقواها ? هو?"السمكة الكبيرة"يحوّل موضوعاً شديد الواقعية الى عمل اسطوري فذ: هنا يتحول موت أب ألبرت فيني الى حكاية حافلة بالأحلام والشخصيات الغريبة من عمالقة ومهرجين وجنود ووحوش، وسكان قرى غريبة وصنادل معلقة، وما الى ذلك. وفي هذا السياق قد يبدو مثلاً فيلم مثل"كوكب القردة"الذي هو، من جانب تيم بورتون، اعادة إنتاج للفيلم القديم المعروف الذي قام ببطولته تشارلتون هستون في الستينات، خارجاً عن سياق السينما البورتونية، لكن هذا الكلام لن يبدو دقيقاً لمن يقارن بين الفيلمين، القديم والجديد، حيث إن بورتون، من دون ان يصل الى حد"الإيهام بالحقيقة"الذي طبع فيلم"كوكب القردة"القديم، راح يشعرنا في كل لحظة من نسخته هو، بأننا امام عمل مخترع، يتماشى مع هوس الإنسان في التعايش مع عوالم غير مألوفة. وكأن المخرج مهّد في كل ذلك للوصول الى"أليس..."رواية العالم غير المألوف بامتياز. غير ان هذا يجب ألاّ يجعلنا نعتقد ان سينما بورتون المولود عام 1960 هي سينما من دون رسالة، هي بالأحرى سينما اجتماعية، أخلاقية، لكنها تعرف حقاً ان الرسالة المعادية للعنصرية والداعية الى قبول الاختلاف، والساعية لرسم صور لأبطال أبرياء، والوصول الى قيم تسامح مدهشة، يجب ان تمر بالبعد البصري أولاً، فتخاطب الروح والقلب قبل ان تخاطب العقل. وما وصول بورتون الآن الى"أليس..."ومن بعدها الى"الحسناء النائمة في الغابة"سوى صورة لفن كبير يتطلع عبر المخيلة والفانتازيا، الى واقع أكثر جمالاً. جوني ديب في"أليس في بلاد العجائب" تيم بورتون خلال تصوير"أليس في بلاد العجائب" "أليس في بلاد العجائب"... والخيانة الجديدة عندما سئل الكاتب انطوني بارغس قبل نحو ثلاثين سنة، كيف تراه استساغ تحويل ستانلي كوبريك روايته الأشهر"برتقال آلي"فيلماً، مع ان كوبريك أخذ قدراً كبيراً من الحرية في اشتغاله على النص الروائي، بطريقة تغضب عادة، المؤلفين الأصليين للنص، أجاب: كان أول ما فعلت أنني نسيت روايتي وقلت لنفسي انني سأشاهد الآن فيلماً لكوبريك! واليوم، لو كان لويس كارول مؤلف"أليس في بلاد العجائب"حياً وشاهد"ما فعله تيم بورتون"بروايته الأشهر، لما كان رد على سؤال مماثل بإجابة مختلفة. ومشاهد اليوم بدوره، إن كان يريد ان يشاهد فيلم بورتون الجديد ويستمتع به، عليه ان ينسى الرواية الأصلية تماماً... حيث لا جدوى من تمضية الوقت في المقاربة بين النص المكتوب والعمل المصور. في اختصار، بورتون لم يؤفلم رواية لويس كارول، بل استوحاها ليحقق فيلماً جديداً له، فيلماً يدخل في فيلموغرافياه كمخرج، بالطريقة نفسها التي يخرج بها من لائحة روايات الكاتب الإنكليزي الكبير. ممتع حقاً، من الناحية البصرية، فيلم بورتون، بل تكاد تبدو ممتعة حقاً الإضافات والنواقص، بالنسبة الى الرواية الأصلية. الإضافات حيث ان بورتون وضع شيئاً من الفيلم من رواية أخرى لكارول - مكملة أصلاً لأليس - هي"عبر المرآة"... وأيضاً حيث ان بورتون أضاف سنوات عدة الى عمر الطفلة أليس: صارت هنا صبية تقترب من العشرين من عمرها، مقدمة على الزواج، أو تحاول في الفيلم - حتى وإن كانت الذريعة نفسها كما في الرواية: سقطة في وكر الأرنب - ان تزور أماكن طفولتها. وهنا لسنا ندري ما اذا كان تيم بورتون وفّق أو لم يوفق في اختياره... لكننا نعرفه انه، كما دأبه دائماً في أعماله السابقة، أعطى للعمل نكهة جديدة. وربما بخاصة نكهة ركزت على البعد البصري في العمل. ذلك ان فيلماً كلف عشرات ملايين الدولارات، في تقنيات - لونية وبصرية خاصة - وفي ألعاب وحيل سينمائية، وفي خلق أجواء مدهشة، ما كان ابداً في إمكانه ان يكون مجرد أمثولة أخلاقية فكرية. إذاً، مرة أخرى هنا، اهتم تيم بورتون بالجانب البصري، كما اهتم خصوصاً، بدلاً من ان يقدم فيلماً للصغار والمراهقين، بأن يقدم فيلماً يخاطب فيه الطفل داخل كل إنسان ومهما كانت سنّه، سواء كان من عمر أليس الرواية، أو من عمر أليس الفيلم. وفي هذا الإطار، للوصول الى هذه الغاية، اشتغل بورتون على النص كثيراً: ألغى شخصيات، وبدّل في شخصيات أخرى. بل انه أتاح حتى للشخصيات المختارة، فضاء أوسع ومشاهد أكثر مما كان يمكن ان يكون لو أنه نفّذ النص الروائي حرفياً. ومن هنا جاء"أليس في بلاد العجائب"على يديه، ومن جديد معرضاً للشخصيات. وهذه السمة هي التي تفرض السؤال التالي: تُرى، انطلاقاً من هنا، أو لم يكن اللقاء بين لويس كارول وبورتون مرتقباً منذ زمن بعيد. بل حتى في واحد من أكثر افلام بورتون واقعية من ناحية موضوعه، أي"السمكة الكبيرة"؟ إن ابن الرجل المحتضر في هذا الفيلم، إذ يأتي مع زوجته الفرنسية لزيارة أبيه في أيامه الأخيرة، أكثر مما يعيش موت هذا الأب، يعيش ذكرياته، الحقيقية أو المخترعة، وفي شكل يبدو متشابهاً مع زيارة أليس الصبية، في الفيلم لملاعب طفولتها، أو بالأحرى طفولة أناها الأخرى. ولئن كان بورتون يختم"السمكة الكبيرة"بمشهد يصوّر إيصال الأب الميت الى مثواه الأخير - وفي الفيلم الى بداية"حياته"الجديدة في عالم فانتازي، فإن الخاتمة تبدو بصرياً وخيالياً بالتالي، مليئة بكل الشخصيات الحقيقية والمخترعة، المنطقية واللامنطقية، التي كنا شاهدناها في الفيلم منذ بدأ الابن يطلع مباشرة أو بالواسطة، على ما يحكيه أبوه من ذكريات. في هذا المعنى، يبدو بورتون هنا وكأنه يقول ان لويس كارول، صاحب رواية فيلمه الأخير حتى الآن، كان من شأنه ان يغوص في فن السينما لو أن هذا الفن كان حاضراً وواعداً بكل السمات الجمالية، زمن كتابة رواية"أليس..."وبكلمات أخرى: يبدو بورتون هنا، بلجوئه الى فن السينما وكأنه يعيد الى لويس كارول حقاً بصرياً، كان سبق على أية حال، لرسامين أن أعادوه إليه، حين اشتغلوا على النص محوّلينه، صوراً ولوحات وشرائط مصورة. وفي هذا السياق هذه ليست المرة الأولى التي تقدم فيها السينما على اقتباس، مباشر أو غير مباشر، لپ"أليس في بلاد العجائب"، بل ان ثمة اقتباسات لم تعلن ابداً عن نفسها، كما الحال مثلاً في فيلم"ماذا؟"لرومان بولانسكي. غير ان كل تلك الاقتباسات ظلت في معظمها عند مستوى الاشتغال على الحكاية، أي على المضمون والدرس الأخلاقي. أما هنا لدى بورتون، وفي فيلم يشاهد بطريقة ثلاثية الأبعاد، فإن المخرج حوّل العمل كله الى ما يشبه العالم الحي امام عيني مشاهده، حيث، حتى الشخصيات التي كان لها دور شرير في الفيلم، صارت شخصيات طريفة. وإذ تجسدت هذه الشخصيات وغيرها، في هذا البعد المجسد، ها هي الملكة الحمراء والأرنب القط... ولا سيما الشخصية الطريفة الغريبة التي يلعبها جوني ديب، ها هي تدب فيها الحياة امام أنظارنا، على الأقل كما قد يحدث على خشبة المسرح. ولعل هذا البعد هو الذي دفع بورتون الى جعل ممثليه يلعبون بطريقة لا تخلو من مسرحية مبتكرة، ما جعل لفيلم"أليس في بلاد العجائب"طابع الفن الشامل والأدب الشامل: الشعر والمسرح والسينما والموسيقى والألوان والأضواء والحركة المجسدة في بوتقة واحدة. فهل نضيف ان كل هذه الشمولية، هي التي أبعدت الفيلم كثيراً عن رواية الكاتب الأصلية وأثارت سخط الذين دون ان يكونوا ملمين اصلاً بتاريخ سينما بورتون، لا يستسيغون فيلماً انضم بقوة الى هذه السينما، كما فعلت من قبل أفلام لها أخرى، أُخذت من نصوص ادبية أحس معجبوها انه قد غُدر بها، أكثر من مرة مثل"سليبي هالو"وپ"تشارلي ومصنع الشوكولا"وحتى"كوكب القردة"؟ نشر في العدد: 17171 ت.م: 09-04-2010 ص: 22 ط: الرياض