كلُ واحد منا يعاني من مركبات نقص وقلق نفسي معين، قد يدفع الكثيرين إلى تجاوز طاقاتهم البشرية والذهنية في معظم الأحيان بغية الحصول السريع على الثروات والألقاب والأمجاد الخادعة، والتي ربما تعمل على الاستنزاف من دون أن تؤمن لأي منا الاكتفاء الذي نطمح إليه. لا أنكر - عزيزي القارئ - أن حب الظهور أو الثراء والتثقف والترف أصبحت جزءاً من الطبيعة البشرية المعاصرة بخاصة بعد أن فتح المجال وأتيحت الفرص أمام الجميع للمساواة في مجال الكسب الأكثر من هذه الحياة التي لم يعد يقوى على إغراء رفاهيتها ومباهجها المتعددة وغزارة إنتاجها أيُ كائن بشري. وعلى رغم ذلك تبقى وتيرة الحياة اليومية تسير على ما هي عليه، حيث تضج المدن والقرى بالنشاط والحيوية والعمل صباحاً في حين تفتح أماكن الراحة والترفيه أبوابها ليلاً، فيعتقد الإنسان دائماً أنه يعيش مع وتيرة تلك الإيقاعات المتكررة يومياً في أحسن أحواله ما دام يعمل،"على البركة في معظم الأحوال"، والمهم أن يكسب من عمله ليعود إلى منزله فيأكل وينام من دون أي محاولة لإيجاد نوع من التغيير والتبدل على الروتين اليومي المحبط! يخطر ببالي أحياناً أن أسأل أي مواطن عادي يشغلُ وظيفة بسيطة بالكاد يكسب منها ما يكفي قوت أسرته اليومي: هل هو سعيد؟ مرتاح البال والصحة والضمير؟ وبالتأكيد لن أفاجأ أبداً إذا ما وجدته يصرخ في وجهي بكلمة"لا ? أبداً"، مشتكياً همه الذي يوزع أسبابه على ارتفاع تكلفة المعيشة، أو لصوصية مالكي العقارات، أو جشع التجار، أو على الدولة التي لا تبدي أي اهتمام بمتابعة أحوال رعيتها ومعالجة ما يمكن أن ينغص عليهم أسباب معيشتهم، وغير ذلك مما قد يثير الاستغراب والدهشة، ويصبح من عجائب الدنيا السبع - مستقبلاً - لو تغير أو تبدل حاله نحو الأفضل في زماننا الصعب هذا! لقد أصبح الشعور بالعجز والقلق النفسي المستمر، والإحساس الدائم بالإحباط لدى شريحة كبيرة لا يمكن أن يستهان بأعدادها داخل مجتمعنا، أمراً طبيعياً ولكنه مؤسف في الوقت ذاته، فمثل هذا الشعور المفعم باليأس هو الذي أصبح يجبر المرء على رؤية الكثير من شرائح المجتمع العاملة غير قادرة على العطاء"بجدية وإخلاص مهني"، وأبرز تلك المشاهد المؤلمة هي التي تتعلق بساعات العمل الصباحية القليلة بخاصة في دوائر ومؤسسات الدولة الحكومية والتي يوزعها الموظفون في الغالب ما بين ساعة لتناول الإفطار في دوائر ومكاتب العمل! وأخرى لقراءة الصحف أو متابعة الإنترنت، ثم ساعتين للعمل ومتابعة شؤون البلاد والعباد، وأخيراً المغادرة ظهراً لأداء الصلاة وإحضار الأبناء من المدرسة، والعودة أو عدم العودة مرة أخرى إلى مكاتب العمل بحسب قرار الموظف ذاته! وفي ظل كل تلك الأوضاع المحزنة لنظام عمل الموظف الحكومي في شكل خاص يضيع الولاء والانتماء لمؤسسات العمل في بلادنا والتي هي بمثابة المرآة التي تعكس مدى القدرة على الإنجاز والفاعلية الحقيقية لتطوير مؤسسات العمل في الدولة. والسؤال المطروح لتجاوز تلك الأخطاء وعدم احترام الأنظمة والقوانين الخاصة بكل دائرة عمل يبحث في واقعه في ماهية البرامج التي وضعتها كل مؤسسة حكومية أو غيرها من أجل تشجيع هذا الموظف على تبديل وتغيير نمط سلوكه المهني نحو الأفضل. إن أي عمل لو تمت إدارته بطريقة جدية ومخلصة لصالح العمل وحده من دون أي شيء آخر كفيلٌ ? عزيزي القارئ - بأن يعتق الإنسان من مجرد إحساسه بالفشل أو العجز عن تحقيق طموحات زائفة ربما يكون قد حلُم بها ذات يوم ولم تكتب له، ولهذا يكون في محاولة تغيير نمطية التفكير والتبدل دائماً نحو الأفضل من خلال الإيمان بشرعية الأهداف المرجوة لكسب اسلوب عيش جديد ونمط متبدل ومتغير باستمرار. من جانب آخر، لو فكرت ? أيضاً ? في سؤال أي تلميذ يغادر منزله صباحاً ذاهباً إلى مدرسته، هل هو مسرور بما ينجزه في المدرسة؟ وهل هو مرتاح نفسياً وذهنياً لما يُقدم له من علوم وتربية وتنشئة؟ وهل بيئته التعليمية مناسبة؟ فقد لا أستغرب ? أيضاً ? إذا ما قرر الصمت وعدم الإجابة على أسئلتي ربما من الخوف، أو من الشك بسوء نيتي من وراء هذه الأسئلة. ولكني بالتأكيد لن أحتاج لأي إجابة منه حيث تكفيني النظرة إلى يديه أو ظهره المثقل بما يحمله من مقررات وأدوات في حقيبته المدرسية والمرغم على أن يقضي معظم يومه في قراءة تلك المقررات التي قد لا يفهم معانيها وأهدافها كما ينبغي، ولكنه مضطر لحفظها كما لقنت له، لا لشيء سوى لتجنب القصاص أو الرسوب في الامتحان منصاعاً بذلك إلى توجيهات المعلمين وكاسباً رضى والديه اللذين يحثانه دائماً على بذل المزيد ليكون له مستقبل لامع. وقد لا يقوى مثل هذا التلميذ وغيره الكثير على الإفصاح عما يجول في خاطرهم من عدم تقبلهم نظام المدارس في بلادنا حتى وإن أدخلت على بعضها التعديلات في المباني وعلى المناهج وطرق التدريس التربوية ونحوها في شكل يجعلها أقل تحجراً وأكثر ملاءمة لنفسية التلاميذ. والسبب في ذلك ? بحسب تصوري ? يعود لعدم تقبل التلاميذ أساساً طرقَ التعليم القسرية ? التلقينية ? المصطنعة التي تفرض دروساً مملة يرغم التلاميذ على ابتلاعها كل يوم بكل ما تتضمنه من تفاصيل علمية وتاريخية، فيتكرر هذا المشهد معهم كل يوم من كل عام ومن دون معرفة ما هو المقصود من حشو الأدمغة بمعلومات فضفاضة؟ هل لتأهيل التلاميذ بهدف التخصص في أي حقل يرغبونه"والسلام"؟! أم المقصود هو بناء شخصية هؤلاء التلاميذ ليصبحوا مواطنين أكفاء؟ وهل المراد من وراء كل ذلك إعدادهم في بلادنا لدخول المراحل الجامعية برؤوس محشوة بمعلومات مبهمة وغير مقنعة أحياناً؟ أم أن الهدف هو إعدادهم لدخول الجامعات بفكر مكتمل الإعداد؟ وإذا كان المقصود بناء شخصية الإنسان منذ طفولته بناءً علمياً وتربوياً سليماً، وتزويد التلاميذ بما يتيح لهم التكيف مع أنماط الحياة المتجددة. والسؤال الذي يطرح نفسه مباشرة: ما هي تلك المقررات الدراسية التي يمكن أن تؤمن للتلاميذ كيفية البحث عن أنماط الحياة المتجددة؟ هل وضع الغرب أسس نظرياتها أم لا نزال ننتظر أن يبتكرها ويطبقها ثم يصدرها إلينا؟ لا أعلم كم سننتظر ليكون العكس؟ وما الذي يمنعنا من تحقيق ذلك؟! لن تكون التربية والتعليم ذات قيمة ما دمنا نوهم أنفسنا بأن الأسس التي قامت عليها في بلادنا هي أسس صحيحة كونها تكتفي بدغدغة مشاعر الأهل وإرضاء طموحاتهم الزائفة، وإيهامهم بأنهم بفعل ما يحصله الأبناء من علوم وشهادات سيصبحون مؤهلين للانتماء مستقبلاً إلى مجتمعات الأثرياء والبورجوازيين والارستقراطيين والبيروقراطيين وغيرهم! متناسين البحث في وسائل للتربية والتعليم تكون جديدة وتهدف إلى بناء الشخصية الذاتية والعقلية للإنسان منذ طفولته ليكون جديراً بحمل اسمه الذي يشير ويرمز إلى آدميته. * أكاديمية سعودية [email protected] نشر في العدد: 17153 ت.م: 2010-03-22 ص: 13 ط: الرياض