نعرف طبعاً، أن ثمة عشرات الكتب التاريخية والمسرحيات والروايات، ومئات قصائد الشعر، كرست دائماً - في فرنسا، ولكن ايضاً، في مناسبات عديدة، خارج فرنسا- للحديث عن جان دارك، البطلة الفرنسية التي تصارعت مع الإنكليز في الأزمان القديمة فهزمتهم حيناً، ثم انتهى بها الأمر الى الوقوع في شباكهم وشباك حلفائهم من الفرنسيين، وحوكمت وأُحرقت. ونعرف ان سيرة جان دارك، إذا كانت بدت طيبة وبطولية في معظم الأعمال، فإن الإنكليز بالتحديد والأنغلوساكسون في شكل عام لم يفتهم ان يسخروا منها. وحسبنا، في هذا السياق ان نقرأ مسرحية جورج برنارد شو، لنجدنا امام مثل هذه الوضعية: بطلة فرنسية مقدسة، يتعامل معها القلم الإنكليزي بلؤم وتهكم. وهو أمر لم يمارسه حتى برتولد بريخت، الذي، حين كتب عن جان دارك، حاول ان يعقلن حتى الخرافات التي حيكت انطلاقاً من سيرتها. أما الدعم الأنغلوساكسوني الذي نالته جان دارك، ومن حيث ما كان في إمكان أحد ان يتوقع، فقد جاءها، من آخر مكان كان يمكن ان تكون ذات حظوة لديه: من سيد الكتّاب الأميركيين الساخرين مارك توين. فهذا الأديب المبدع الذي كان من الصعب ان تمر بين يديه سيرة شخص ما، إلا وتتحول الى سيرة ضاحكة ساخرة، حين أراد ان يكتب عن جان دارك... غيّر اتجاهه تماماً، فكتب عنها باحترام قلّ نظيره. ومن دون ان يضيف شيئاً الى سيرتها المعروفة، أو يحذف منها شيئاً. الجديد لديه كان أسلوبه اللطيف في الكتابة عنها، وتحديداً على الضد من الإنكليز الذين لم يوفر لوماً يلقيه عليهم في مجال الحديث عن محاكمتهم لها. غير ان اللافت في هذا كله هو ان مارك توين، لم يستخدم، كما فعل وسيفعل غيره من الكتّاب، جان دارك لمجرد النكاية بالإنكليز... بل لتمجيدها والتأكيد حتى على الجوانب الأكثر أسطورية في حياتها ونضالاتها المروية. بيد ان علينا هنا، إذ نقول هذا كله، ان نتنبه بعض الشيء الى الظرف الخاص الذي كتب فيه مارك توين هذا النص. وهو نص كان من آخر ما أصدر قبل رحيله، حتى وإن كانت كتابته، كما قال بنفسه، قد استغرقته بين 12 و15 سنة. فالواقع ان مارك توين قبل تلك السنوات الأخيرة من حياته مباشرة، كان غالباً ما يتعرض الى هجمات صحافية وأدبية تأخذ عليه كونه احتقر الناس أجمعين ولا سيما الذين كتب عنهم، إذ كانوا في الأصل اشخاصاً حقيقيين. فهو لم يكن يوفّر احداً، وبالكاد يجد شيئاً ايجابياً يتحدث عنه لدى أي شخص من الأشخاص، فقط الشخصيات التي كان يبتكرها كانت محترمة وذات قيمة لديه. ومن هنا، اذ اشتدت عليه الحملات جراء ذلك قرر كما يبدو ان يقول:"أبداً... حين يكون لدي موضوع يستحق الثناء والاحترام، ستجدونني غير متردد في تناوله في شكل جدي ومحترم... وهذا هو الدليل!". والدليل هو هنا، طبعاً، هذا النص، الذي حتى من قبل ان يبدأ توين كتابته قال لأصدقائه:"سأكتب عن عذراء أورليان نصاً في منتهى الجمال والجدية... نصاً يشغل في القلب والفكر في هذه الأيام". وحين قال توين هذا الكلام، كان يمضي فترة من الوقت في مدينة فلورنسا الإيطالية، مستمتعاً بأجوائها الفنية الرائعة، وكذلك - كما سيقول بنفسه - بهالتها الدينية العظيمة. لكنه في فلورنسا لم يفعل أكثر من كتابة الصفحات الأولى. ثم تابع الكتابة بعد ذلك في باريس التي أقام فيها فترة من الزمن. ولن ينتهي من وضع الكتاب إلا بعد ذلك بسنوات، أي في عام 1895، حين كان قد عاد الى الولاياتالمتحدة الأميركية. وهناك راح ينشر النص على حلقات شهرية في"هاربرز ماغازين"بين كانون الثاني/ يناير - ونيسان/ ابريل من ذلك العام... ولعل اللافت هنا هو ان الحلقات نُشرت من دون اسم المؤلف، ومع عنوان طويل جداً، لفت الأنظار وأثار الكثير من التساؤلات. والعنوان في ترجمته العربية هو:"ذكريات شخصية حول جان دارك، كتبها السيد لويس دي كونديه وصيف جان دارك ورفيقها وسكرتيرها ترجمت، بتصرف من اللغة الفرنسية القديمة، الى الإنكليزية الحديثة، انطلاقاً من مخطوطة غير منشورة تم العثور عليها في المحفوظات الوطنية الفرنسية والترجمة من صنع كين فرانسوا آلن". تألف النص، إذاً، من ثلاثة أقسام، من الواضح ان مارك توين كتبها من ألفها الى يائها، وغالباً من الذاكرة من دون اي اعتماد على اية مراجع باستثناء بعض الفصول التاريخية. وهو أعطى للقسم الأول عنوان"دومريمي"، فيما جعل عنوان القسم الثاني"في البلاط وفي المعسكرات"، أما القسم الثالث حمل منطقياً عنوان"المحاكمة والموت". ومنذ صدور النص سيفضّل النقاد - وعامة القراء ايضاً - القسم الثالث، والذي من الواضح ان مارك توين وضع فيه الكثير من ذاته، وأراده ان يكون واحداً من آخر النصوص التي يكتبها. ولقد كانت الحال هكذا بالفعل. إذ - حتى وإن كان مارك توين عاش سنوات طويلة بعد صدور هذا الكتاب، وحتى وإن كان أصدر خلال تلك السنوات عدداً كبيراً من الدراسات والقصص - فإن صاحب"توم صوير"و"هاكلبري فين"، لم يصدر اي عمل أكبر وأهم من"جان دارك"النص الذي اعتبره"مؤلَّف حياته"وعمله الأكبر في مجال الأدب الروائي - ذلك ان هذا النص يشكل في نهاية الأمر رواية حقيقية-. لكن ما يتعين قوله هنا، هو انهم لم يكونوا كثراً أولئك الذين وافقوا مارك توين على رأيه في هذا النص. ذلك انه - اي النص - ظل، وربما لا يزال حتى الآن، العمل الأكثر إثارة للاهتمام بين عشرات الكتب والنصوص التي كتبها. بل إن كثراً - حتى من بين قراء مارك توين الأكثر حماسة لأدبه - يجهلون وجود هذا الكتاب، الذي - على أية حال - لم يحمل توقيع مارك توين إلا لاحقاً. وحين صدر للمرة الأولى بتوقيعه دُهش كثر: من اين لمارك توين كل هذا الإيمان؟ من اين له هذا الاحترام للبشر وللتاريخ؟ مهما يكن من أمر، نعود هنا الى الكتاب نفسه لنذكر ان مارك توين، إذ آثر يوم كتابته - أو بالأحرى خلال سنوات كتابته الطويلة - ان يصوغه على شكل رواية، فما هذا إلا لأنه كان يريد له، في الأصل، ان ينتشر وأن يصل الى أكبر عدد ممكن من القراء وهو مدرك أنه لن يصل إذا ما كُتب على شكل دراسة تاريخية، ولن يكون في مقدوره ان يضيف شيئاً إن هو ظهر على شكل مسرحية أو أوبرا. وطبعاً، في ذلك الحين، لم تكن السينما ظهرت بعد، وعلى الأقل كوسيلة توصل الحكايات والأفكار، وإلا لكان من المؤكد ان مارك توين كان سعى لأن تكون مساهمته في الفن الجديد، عملاً عن جان دارك، التي يبدو انها ظلت تشغل باله طوال السنوات الأخيرة من حياته. وظلت لديه، تشكل استثناءً بين أبطال التاريخ وأهله، إذ ان هذا الكاتب الساخر، وبعد ان"انتهى"من جان دارك وقدم لها حصتها من احترامه، عاد يسخر من شخصيات تاريخية سياسية وأدبية مثل شكسبير او الملك البلجيكي ليوبولد... الخ، مؤكداً في طريقه انه يحترم من هو جدير باحترامه، ويتهكم على من يراه جديراً حقاً بذلك التهكم... وفي غالبية كتبه، قبل جان دارك وبعدها، ظل مارك توين من كبار المتهكمين في تاريخ الأدب، هو الأديب والشاعر والروائي والباحث والقاص، والصحافي وصاحب النصوص الرائعة في أدب الرحلات ومنه كتابه الشهير"رحلة الأبرياء"الذي نجد فيه ذكراً طريفاً للبنان وسورية وفلسطين، وتهكماً على الشعب الفرنسي مع إشارات إلى عدم إيمان هذا الشعب بالنظافة على رغم ان مدينة مرسيليا، هي مركز صناعة الصابون في العالم!. * ولد مارك توين واسمه الأصلي صامويل لانغهورت كلمنس ام 1835، ورحل عن عالمنا عام 1910. وهو لئن كتب عدداً لا يحصى من الكتب والدراسات يظل شهيراً بروايتيه"مغامرات هاكلبري فين"و"مغامرات توم صوير"1876 المعتبرتين اعظم روايتين على الإطلاق في الأدب الأميركي. [email protected]