البيت الابيض القديم والصغير في شارع غريتيسغاتا، في رايكجافيك، يبعد مئات الامتار عن الاطلسي. ورياح الشمال المتقلبة تمطر البلدة فجأة بالثلج وتغلفها بالجليد، ولو كان الفصل ربيعاً. فيخيم الصمت على المكان، على ما حصل صبيحة ال30 من آذار مارس الماضي حين وصل أوسترالي اسمه جوليان بول أسانج، عيناه زرقاوان وشعره فضي البياض، لاستئجار المنزل هذا مرتدياً ملابس التزلج على الثلج. ورافقت أسانج مجموعة من الاصدقاء. وقالوا للمالك:"نحن مجموعة صحافيين نعد مقالات عن البركان". ففي تلك الايام، كانت سحب دخان بركان ايجافجالاجوكول بركان آيسلندا تملأ السماء. وفور مغادرة المالك المكان، أُسدلت الستائر، ولم تُرفع بعدها لا في الليل ولا في النهار. وتحول المنزل مركز عمليات أطلق عليه اسم ال"بانكر"القبو. ووُصلت عشرات اجهزة الكمبيوتر في غرفة جلوس جدرانها بيضاء وهندستها الداخلية شبيهة بالمركبات الفضائية. وبدأ ناشطون آيسلنديون يتوافدون الى المكان للعمل من غير توقف لإنجاز المشروع"ب". وهو اسم أطلقه أسانج على شريط فيديو من 38 دقيقة سجل في 2007 من مقصورة مروحية"أباتشي"بالعراق. وفي الشريط، يظهر جنود أميركيون يقتلون 18 شخصاً، منهم مصورون من وكالة رويترز. ويومها، صُنّف الفيلم سراً عسكرياً. وأسانج هو نوع من مهربي المعلومات، فهو وعدد من الناشطين يجمعون الوثائق والصور التي تصنفها الحكومات ومؤسسات بالسرّية، وينشرونها على موقع"ويكيليكس.أورغ". ومنذ انشائه في 2006، نشر الموقع هذا مجموعة واسعة من وثائق أرشيف سري، ومن محاكمات معسكر دلتا في معتقل غوانتانامو، ومحتوى حساب سارة بايلن، المرشحة الجمهورية السابقة الى منصب الرئيس الاميركي، على موقع"ياهو"، ورسائل ما عرف ب"كليمايتغايت"فضيحة الطقس في جامعة إيست انغليا، بإنكلترا. و"ويكيليكس"ليس منظمة، بل هو أقرب الى"انتفاضة اعلامية"أو فتنة اعلامية. والموقع لا يديره موظفون، ولا يعمل فيه ناسخو وثائق، ولا يملك مقراً ثابتاً. وأسانج نفسه لا منزل له، فهو يتنقل من بلد الى آخر، وينزل ضيفاً على متعاطفين معه أو أصدقاء أصدقاء،"أنا اسكن في المطارات"، على ما قال لي ذات يوم. وهو عمود"ويكيليكس"الفقري، ولا تقوم للموقع قائمة من دونه، ومئات المتطوعين من العالم أجمع يسهمون في صيانة بنية الموقع التحتية المركبة. ومساهمة كثر من هؤلاء ضئيلة، ولكن ثمة نواة من المساهمين مؤلفة من 4 الى 5 اشخاص يكرس الواحد منهم وقته للموقع. وهؤلاء لا يفصحون عن اسمائهم، ويُعرفون بالحروف الأولى لاسمائهم. ولا يتخففون من الغفل والسرية حين يتناقشون على منابر"ويكيليكس"المشفّرة. وانتخبت"ويكيليكس"آيسلندا مركزاً للعمل على المشروع"ب". وفي 2009، سعى أسانج ومجموعة من السياسيين الآيسلنديين إلى صوغ مشروع قانون يحمي حرية التعبير ويحصِّنها، وبعض هؤلاء تعاون مع"ويكيليكس"في المشروع ب. وموضوع المشروع هذا أخاذ. فهو يُظهر فظائع الحرب الحديثة. وأمل أسانج في أن يثير بث الشريط مناقشات عالمية تتناول الحربين في العراق وأفغانستان. وأراد صاحب"ويكيليكس"نشر الشريط أمام نادي الصحافة في واشنطن، صبيحة 5 نيسان أبريل الماضي، وفي سبيل بلوغ مأربه، حلل وأعضاء مجموعة"ويكيليكس"مادة الفيديو"الخام"، وتولوا توليفها لاخراج فيلم قصير، وأنشأوا موقعاً لنشره، واطلقوا حملة اعلامية تروّج له على أنه فيلم عن عملية أميركية بأفغانستان، لتضليل السلطات الاميركية، وأعدوا وثائق عن الموضوع، وأنجزوا المهمات هذه في أقل من أسبوع. وحرص أسانج على توفير سبل بقاء الفيديو على الشبكة إثر بثه، للحؤول دون إلغائه، ف"ويكيليكس"تحفظ محتوياتها في أكثر من 20 خادماً الكترونياً موزعين في انحاء المعمورة، ويحملون أسماء ميادين domains مختلفة. ويغطي"ويكيليكس"أكلاف عمله من طريق التبرعات، وأنشأ متعاطفون مع الموقع هذا"مواقع ? مرايا"لدعمه ومساندته، ويقول اسانج ان موقعه يعصى على الرقابة، فهو ينشر وثائق رسمية لا يسع الحكومات أو الشركات العثور على أصلها. وعليه، يستحيل سحب الوثائق المنشورة أو إلغاؤها. وسحب الوثائق من الشبكة يفترض حل الحكومة شبكة الانترنت كلها، فالوثائق مبثوثة على مئات"مواقع - المرايا". ولوّحت أكثر من جهة بملاحقة أسانج قضائياً، ولكنها عدلت عن ذلك، فعلى سبيل المثال، هدد محامو البنك البريطاني"نورثرن روك"بمقاضاة"ويكيليكس"جراء نشر مذكرة داخلية محرجة. وتوعد سياسي كيني بمقاضاة أسانج اثر نشره وثيقة توحي أن الرئيس دانيال أراب موا وحلفاءه اختلسوا بلايين الدولارات. وكافأت منظمة العفو الدولية موقع"ويكيليكس"لإماطته اللثام عن الفساد في الحكومة الكينية. ومجموعة العاملين في"ويكيليكس"هم في الأغلب مصابون بلوثة البارانويا، أي أنهم يبالغون في الارتياب بالآخرين. في آذار مارس الماضي، نشر تقريراً سرياً أميركياً يذهب الى ان"ويكيليكس"هو مصدر خطر محتمل على الجيش الاميركي، ويدعو الى ثني موظفين إداريين عن تسريب معلومات اليه. وندّد أسانج بالاستخبارات الاميركية قائلاً على"تويتر":"هم يريدون تدمير"ويكيليكس". ويستخدم أسانج جهازي كمبيوتر، احدهما يصون"الهواء الفارغ"، على ما يقال في عالم الجاسوسية حين يدور الكلام على معلومات محفوظة على جهاز كمبيوتر غير متصل بالانترنت. وصار أحد العاملين في"ويكيليكس"أمين خزانة مشروع"ب"الرسمي، إثر تبرعه بنحو 10 آلاف يورو لتمويل المشروع. وفي ال"بانكر"، يسهر على التزام الفريق خطة العمل، ويحرص على ملء البراد بالمأكولات والمشروبات، وعلى حسن سير العمل. قرابة الساعة الثالثة، تدخل النائب في البرلمان الآيسلندي بريجيتا جونسدوتير الغرفةَ، وتُخرج من حقيبتها قميصاً كتبت عليه عبارة"ويكيليكس"، وترميه الى أسانج قائلة"يجب أن تغير ثيابك". ولكنه يتابع عمله، ولا يشيح برأسه عن الكمبيوتر. والنائب الآيسلندية تميل الى عقيدة الفوضوية السياسية، وهي اذ تخرج من حقيبتها كمبيوتراً محمولاً، تسأل عن كيفية تنظيم العمل، فعشرات الناشطين الآيسلنديين سيشاركون في توليف الفيديو. واقترح أسانج الاتصال ب"غوغل"لضمان امتناع"يوتيوب"عن سحب الفيلم إثر بثه نزولاً عند رغبة الحكومة الاميركية. أثناء عمل فريق"ويكيليكس"، لا يفارق أسانج الشعور بأنه مراقب، فيقول أحدهم:"كلنا نعاني الفصام والبارانويا جنون الارتياب. وعند السادسة مساء، ينهض أسانج عن طاولة العمل حاملاً بيده قرصاً مدمجاً سجل عليه المشروع"ب". والشريط هذا حاولت وكالة"رويترز"الحصول على نسخة منه بالاستناد الى قانون حرية المعلومات الاميركي، ولكن محاولاتها باءت بالفشل. وفي الشريط المصور في غرب بغداد، تظهر في اللقطة الاولى قبة جامع وراء عدسة منظار تصوير حربي. وفي لقطات أخرى تُرى مبانٍ متتالية وأشجار بلح، وشوارع مقفرة، ويُسمع صوت رنين راديو الجنود ونثرات من أحاديثهم المقتضبة. أول الكلمات التي تتناهى الى المسامع من الاحاديث مؤلفة من كلمتين، هما:"أوكي، نلت منهم". والفيلم من 3 أجزاء: الجزء الاول يُظهِر هجوماً شُنَّ عن طريق الخطأ، والجزء الثاني يظهر جريمة قتل واضحة، والثالث، مجزرةَ مدنيين ابرياء نفذها جنود. اللقطة الاولى تبعث في المُشاهد القشعريرة، اثر سماع لغة الجنود الفجة و"البربرية"، ففريق الجنود يرصد مجموعة رجال تتجول في الشارع، ويبلغه أن 5 أو 6 منهم مسلحون، ولحظة اقتراب مروحية"اباتشي"من الهدف استعداداً لاطلاق النار، يَظهر للجنود صحافي من وكالة"رويترز"، ويحسبون أن عدسة الكاميرا الكبيرة التي يحملها فوهة منصة لإطلاق صواريخ، ويدوم اطلاق النار 25 ثانية، ويقضي على المجموعة كلها. وفي الجزء الثاني من الفيلم، ترى المروحية وهي تمشط ساحة القتال هذه، ويلاحظ أن أحد المسلحين المزعومين مصاب وعلى قيد الحياة. وفي تلك اللحظة، تمر شاحنة، وتتوقف، فيترجل منها ثلاثة رجال غير مسلحين لمساعدة المصاب. فيطلق الجنود النار عليهم ويردونهم، ويصيبون طفلين كانا برفقة الرجال هؤلاء بجروح، اثر الاتصال بالقيادة واعلامها أن ثمة من يحاول أخذ أسلحة القتلى. وفي المشهد الثالث، يرصد الجنود 6 رجال يشتبه في أن واحداً منهم سبق له الاشتباك مع الاميركيين. وفور دخول هؤلاء مبنى قيد الانشاء، تطلق 3 صواريخ"هلفاير"نيران الجحيم على المبنى، فتملأ سحب دخان المكان. * مراسل، عن"ذ نيويوركر"الاميركية، 6/2010، اعداد منال نحاس