كشفت عملية الاغتيال التي تعرض لها العالِم النووي الإيراني مجيد شهرياري في 29 تشرين الثاني نوفمبر الفائت، النقاب عن مواجهة جديدة مفتوحة بين إيران والدول الغربية التي تسع? للتأثير على البرنامج النووي الإيراني، من خلال خيارات تتجاوز الخيارات العسكرية التقليدية. وقد اتخذت هذه المواجهة أشكالاً متعددة منها: - قرارات المقاطعة الاقتصادية التي فرضها مجلس الأمن الدولي، والمقاطعة الأحادية التي قررتها الولاياتالمتحدة والدول الغربية الأخرى، والتي استطاعت ان تضم اليها العديد من الدول والمؤسسات المالية العالمية. - الحرب الإلكترونية غير المعلنة التي أصابت البرنامج الإيراني واعترف بها الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد خلال مؤتمره الصحافي الذي عقده في 30 من الشهر الماضي. - محاولات الاغتيال التي نفذت بحق علماء نوويين إيرانيين، والتي بدأت باغتيال مسعود علي محمدي في الثاني عشر من كانون الثاني يناير الماضي، وتبعها الاعتداء على مجيد شهرياري، وفريدون عباسي في التاسع والعشرين من تشرين الثاني الماضي. المقاطعة الاقتصادية لا يوجد في إيران من يشك بآثار المقاطعة الاقتصادية، وانعكاسها عل? حياة المواطنين الإيرانيين، وعل? رغم تمكن السلطات من استيعاب أثار هذه المقاطعة، استناداً لخبرتها في هذا المجال خلال العقود الثلاثة الماضية، إلا ان الولاياتالمتحدة لا تزال تضغط عل? المؤسسات المالية والشركات الدولية لإيقاف تعاطيها مع إيران، وهذا يكبد الوضع الاقتصادي خسائر إضافية. وثمة اعتقاد، ان المقاطعة الاقتصادية تعتبر ايسر الخيارات، خارج الخيارات العسكرية، بناء عل? الموارد المالية التي تمتلكها إيران من احتياطات النفط والغاز والمعادن الأخرى، فضلاً عن الصناعات الثقيلة والخفيفة. ويستبعد المعنيون ان تستطيع الدول الغربية إرغام القيادة الإيرانية على الرضوخ لمطالبها من خلال المقاطعة الاقتصادية، كما فعلت مع ليبيا - عل? سبيل المثال -، أو إسقاط النظام وفق النموذج العراقي، لأن الآليات التي تمتلكها إيران في الوقت الحاضر تستطيع إبعادها عن شبح النماذج الأخرى، إضافة ال? ان طريقة تعاط? المسؤولين الإيرانيين مع ملفاتهم الحساسة تختلف عن تعاطي الآخرين مع مثل هذه الملفات. باستثناء المسؤولية التي تحملتها منظمة"مجاهدين خلق"الإيرانية المنشقة في تقديم المعلومات عن العالمين مجيد شهرياري، وفريدون عباسي، لم تتبن أية جهة مسؤولية الاغتيالات التي تعرض لها العلماء الإيرانيون، إلا ان المصادر الأمنية الإيرانية اتهمت أجهزة استخبارات غربية بالضلوع في هذه العمليات، حيث اتهم وزير الأمن الإيراني حيدر مصلحي جهاز المخابرات الإسرائيلي"موساد"، ووكالة الاستخبارات الأميركية، وجهاز الاستخبارات البريطاني"أم 16"بالوقوف وراء عمليات الاغتيالات، مشيراً ال? الحصول عل? بعض المعلومات حول الأجهزة المنفذة من خلال إلقاء القبض عل? عدد من العناصر الذين وصفهم بعملاء الأجنبي. ورأ? مصلحي ان"هدف الأعداء من اغتيال النخب العلمية استهداف الاستقرار في البلد"، لكنه قال:"ان مثل هذه العمليات لا يمكن لها التأثير على عزم الشعب الإيراني وتحديداً الجامعيين في بناء البرنامج النووي الإيراني". واتهم وزير الأمن الإيراني 80 مؤسسة بإدارة"الحرب الناعمة"، مع ايران، من خلال موازنة تعادل 2 بليون دولار، مشيراً ال? ان الولاياتالمتحدة تكلفت بصرف 17 بليوناً و700 مليون دولار خلال 18 عاماً الماضية لمواجهة النظام الإسلامي"، من دون ان يعطي تفاصيل لهذه الأرقام، لكن الثابت ان اختراقاً أمنياً مهماً حصل للجهاز الأمني الذي استطاع اغتيال العالِم مجيد شهرياري، وملاحقة العالم فريدون عباسي من دون ان تتمكن الأجهزة الأمنية الإيرانية من تتبع الجناة، كما فشلت في إلقاء القبض عل? العناصر التي اغتالت العالِم مسعود علي محمدي. ولا شك، فإن محاولة اغتيال عالِمين نوويين في يوم واحد، وفي الساعة ذاتها، وفي مكانين مختلفين من العاصمة الإيرانية، شكلت ضربة موجعة للجهاز الأمني الإيراني الذي استفاق عل? سيارات الإسعاف وهي تحمل عالِمين يعملان في البرنامج النووي الإيراني أحدهما قض? والآخر جرح. وبعيداً من أهمية العلماء النوويين الثلاثة في البرنامج الإيراني، فإن الاستهداف يعيد للذاكرة عمليات الاغتيال التي تعرض لها العلماء الذين كانوا يعملون في البرنامج النووي العراقي من قبل جهاز الاستخبارات الإسرائيلي في ثمانينيات القرن الماضي، وكذلك عمليات استهداف هؤلاء بعد عام 2003، خلال الفوض? التي سادت العراق بعد سقوط النظام العراقي السابق، والذي يرجح فرضية ضلوع هذا الجهاز في اغتيالهم، من خلال خبرته في تنفيذ عمليات الاغتيال كما جر? لعضو حركة"حماس"في دبي عبد الرؤوف المبحوح. ولا تستبعد المصادر حدوث عمليات مشابهة للعاملين في البرنامج الإيراني في إطار"المواجهة المفتوحة"بين إيران والدول الغربية، خصوصاً ان عملية اغتيال العالمين النوويين، أثبتت وجود خلايا نائمة في إيران تعمل وفق أجندة محددة، وفي المكان والزمان المناسبين، وهذا بحد ذاته اختراق واضح وخطير للأجهزة الأمنية الإيرانية. وإذا كان صحيحاً ان عملية الاغتيال كانت رسالة موجهة للقيادة الإيرانية عشية مفاوضات جنيف التي عقدت يومي السادس والسابع من الشهر الجاري، من اجل الضغط للحصول عل? المزيد من التنازلات عل? صعيد البرنامج النووي الإيراني وتحديداً أنشطة التخصيب، إلا أن الصحيح أيضاً، ان العملية تدخل في إطار"المواجهة المفتوحة"، التي بدأت فصولها الأولى، ويصعب التكهن بخاتمتها. الحرب الإلكترونية باحثون في شبكة المعلوماتية يصفون الفيروس"ستاكسنت"الذي ضرب البرنامج النووي الإيراني بأنه فيروس معقد تقف وراءه جهات في غاية التنظيم والتعقيد، حيث يمكن من خلاله التعرف ال? شبكة التحكم في منشأة معينة قبل تدميرها. ويقول هؤلاء الباحثون ان"ستاكسنت"ليس شبيهاً بالفيروسات التي تصيب الشبكة المعلوماتية الانترنيت، وإنما من النوع المخصص لأنظمة المعدات الصناعية التي تتحكم بأنابيب النفط، والمرافق النووية والكهربائية إضافة ال? المواقع الصناعية الكبيرة والحيوية. ويعتقد هؤلاء ان هذا الفيروس"ربما"عمل عل? إصابة أجهزة الحاسوب التي تعمل في اكثر من منشأة اقتصادية إيرانية، حيث قلل وزير الاتصالات الإيراني رضا تقي بور من أهمية الفيروس"الذي يستخدم في أعمال التجسس في الأنظمة الحكومية"، لكن مسؤولاً إيرانياً في وزارة الصناعة تحدث عن إصابة 30 ألف جهاز حاسوب، معتبراً ان هذا الفيروس هو"جزء من حرب إلكترونية يتم شنها ضد إيران". ويعتقد خبراء إيرانيون ان فيروس"ستاكسنت"، يشكل النواة الأولى للحرب العالمية الثالثة، التي تقود ال? خلق صراع محموم بين الدول عل? التسلح في هذا المجال، بعدما كان مقتصراً في السابق عل? قرصنة بدائية للمنظومات الإلكترونية. ولم تقف السلطات الإيرانية مكتوفة الأيدي حيال هذه الحرب، بل سارعت ال? دخولها، مثلما دخلت مجالات الحرب الحديثة، لتنضم ال? منظومة"المواجهة المفتوحة"وفق نظرية"صراع الارادات"الذي تخوضه إيران مع الدول الغربية. واذا كانت الدوائر العسكرية والأمنية الأميركية والإسرائيلية توصلت ال? نتيجة مفادها عدم إمكانية استخدام الخيار العسكر? ضد إيران في الوقت الراهن، فإن هذه الدوائر ربما فكرت بخيارات أخرى اقل تكلفة من الخيار العسكري، من دون ان تترك الخيارات السياسية لإقناع طهران بترك طموحاتها النووية.