تحتل قضية تغيّر المناخ مكانة مهمة في جدول أعمال السياسات الدوليّة وتعد قضيّة التَّنمية البشريّة المميِّزة لجِيلنا. وقد توثّق بشكل حاسم أنّ حرارةَ سطْح الكُرة الأرضيّة ارتفعَت في المتوسط بما يقرب من درجة مئوية على مدى القرن الماضي. ويُتوقَّع ارتفاع متوسِّط درجة الحرارة العالميّة بمقدار أربع درَجات مئويّة بحلول نهاية القرن الحادي والعشرين. ويُنسَب هذا التَغيُّر في درَجات الحرارة على نحو قاطع إلى انبعاث الغازات الدفيئة. وفي الواقع، تَعمل حكومات العالم باطِّراد على بناء تلك الأرْضية المشترَكة منذُ انطلاق اتفاقية الأممالمتحدة الإطارية في شأن تَغيُّر المناخ"في ريودي جانيرو 1992، وما تلاها من اجتماعات واتفاقات في كِيُوتو، ومراكش، وبالي، وكوبنهاغِن، وقريباً في كانكون. وتم إنشاء أُطر عمل لتخفيف حدّة هذه الانبعاثات أو احتباسِها. والغرضُ من هذه الجهود، المعروفةِ باسمها الجامع: التَّخفيف، هو الحدُّ من الانبعاثات الإجماليّة من أجل تجنّب أسوأ السِّيناريُوات لوطأة التَغيُّر المناخيّ في المستقبل. ومع أنّ التَّخفيف أمر لازمٌ، فإنه لن يَحمي الناسَ من مستوى التَغير المناخيّ الذي أصبح بالفعل أمراً لا مفرَّ منه بسبب التَّراكُم الحاليِّ والمستمرّ للانبعاثات في الغلاف الجويّ. وفي الواقع، حتى في أفضل السِّيناريوات، لن يبدأ التَّخفيفَ بإحداث فرْق إلاّ في نحْو العام 2030 فصاعداً. وحتى ذلك الحين، يجب على البلدان اتِّخاذُ إجراءات مسبقة لتخفيض المخاطر والحدِّ من الأضرار التي يسبّبها تَغيُّر المناخ. وهذا التَّكيفُ ضروري على المدى العاجل والآجل لمعالَجة الآثار الناتجة من الاحتِرار. ويشعر الكثير من السكان في مختلف أنحاء العالم بمفاعيل التَغيُّر المناخيّ، والأفقرُ بينها هي المتأذِّيةُ حاليّاً أكثرَ من غيرها. فالأشخاصُ والمجموعاتُ من ذَوِي الموارد القليلةِ نسبيّاً هم الأقلُّ عدّةً وقدرة للتكيف و للتّعافي من التّدمير الممكنِ نتيجةً للحالات المناخيّة القُصوى كالعواصف، والفيَضانات، وتآكُلِ السَّواحل، وموْجاتِ الحرّ، وحالاتِ القحط. والخسارةُ اللاحقة من المياه النقيّة للشّرب، وفقدانُ الظّروف الإنتاجيّة للزراعة، وانتشارُ الأمراض الناتجة من المناخ تولِّد أخطاراً على الصحَّة والحياة السليمة. ولهذه التَغيُّرات تأثيرات في كلّ المجتمعات تُراوح من تخفيض النموّ الاقتصاديّ إلى زيادة عدم الاستقرار، وتالياً تُمثِّل تحدِّيات استراتيجيّة تُضاف إلى تحدِّيات المساعدة الإنسانيّة. والخسائرَ من تغيّرات المناخ والحالات المناخيّةِ القصوى الحالية والمتوقعة مستقبلاً هي بالفعل كبيرةٌ، ومتزايِدة. والاستجاباتُ المنفردة وغيرُ المنسَّقة هي ردود فعل ليست كافية. فحمايةُ المكاسب ومواصلةُ الارتِقاء بالتَّنمية البشريّة في أنحاء العالم ستتطلَّبانِ بذْلَ جهودٍ منسَّقةٍ واسْتِباقيّة لبناء القدرة على تَحمُّل تَغيُّر المناخ. فكيف سيكون ردُّ فعْلنا في العالم العربي تجاه تَغيُّر المناخ؟ إن كنّا نرى فيه تهديداً، فهل سنتفاعل معه أم لا؟ هل سنتَّخذ تدابيرَ للتخفيف من تأثيراته والتكيُّفِ معها، أمْ ننتظر حتى حدوث المآسي قبل اتّخاذ أيِّ إجراء؟ والحال أن هذه الأسئلة ما زالت في البلدان العربية بلا إجابةٍ إلى حدٍّ كبير. صحيحٌ أن هناك عدداً من الاستجابات الملحوظة والمتزايدة في السنوات الأخيرة. ولكن، من الصَّعب جدّاً تكوينَ تصور واضح حول كيفية اعتزام الدول العربية التعامل مع ظاهرة تغير المناخ بجوانبها المختلفة والمتشعبة، وما نعرفه على العموم عن وضع المنطقة واحتمالات تأثر بلدانها بتغير المناخ لا يبعث كثيراً على الاطمئنان. فالدُّوَل العربيّة تعرَّضت تاريخيّاً لمخاطرَ مرتبطة بمناخ قاس. وهي حاليّاً الأولى بين مناطق العالم من حيثُ نُدرة المياه، و 90 في المئة من مساحة سطْحها تقع ضمْن مناطقَ قاحلةٍ، ونصف قاحلة، وجافّة شبْه رَطِبَة. لكنّ تُظهِر العديد من الإسقاطات أنّ ظّروفاً مناخيّة أقسى تنتظرنا. وتُشير سيناريُوات تَغيُّر المناخ في المنطقة العربيّة إلى أنّ فتراتِ الجفاف ستزداد تواتراً. وتُظهِر إسقاطاتُ الهيئة الحكوميّةِ الدوليّةِ المعنيّةِ بتَغيُّر المناخ انخفاضاً مقبلاً لهطول الأمطار في المنطقة. ومِن المرَجَّح جدّاً أن تكون مِنطَقةُ غرب آسيا خاضِعة لجفاف شديد ومتزايد في العقود المقبلة، مع توَقُّع ارتفاع الحرارة أكثرَ من 4 درَجات مئويّة في أنحاء الجزء الشماليِّ الأقصى في الصيف، وانخفاض في معدّلات سُقوط الأمطار بما يزيد على 30 في المئة في بعض المناطِق. وَسيؤدِّي ارتفاعُ درَجات الحرارة وانخفاضُ هطول الأمطار إلى الإقلال من تَدفُّق الأنهار والجداول، وإبطاءِ معدَّل ما تحتاج إليه خزَّاناتُ المياه الجَوْفيّة لتَعبئة نفْسِها، وجعْلِ المنطقة كلِّها أكثرَ قُحُولَةً. وستكون لهذه التَغيُّرات سلسلةٌ من الآثار، لا سيّما في الزِّراعة، والطاقة، والأمنِ الغذائي. ومن المتوقَّع أيضاً أن يَزيد تَغيُّرُ المناخ وتيرةَ الظروف المناخيّة القصوى والكوارثِ ذاتِ الصلة وحِدَّتَها، الأمرُ الذي يُؤدِّي إلى أحداثٍ أشدَّ قسوةً مثْل الجفاف، والفيضانات، والأعاصير، والعواصفِ الترابيّة. وقد شهدت المنطقةُ العربيّة في السنوات القليلة الماضية عدداً متزايِداً من الأحداث المناخيّة القصوى مثل الجفاف، والفيضاناتِ الخاطِفة، والأنواء العاصفة. ومع أنّ الضَّررَ المرتبطَ بهذه الأحداث نادراً ما قِيسَ كمِّيّاً، فإنّ التقديراتِ الأوّليّة تُشير إلى تكاليفَ اقتصاديّة واجتماعيّة وبيئيّةٍ ضخمة وإلى خسائرَ يُمكن أن تُقيِّد التَّنمية في بلدانٍ عديدة. وقد يُؤدِّي ارتفاعُ مستوى سطح البحر إلى غمْر المناطق الساحليّة الطويلة في المنطقة العربيّة، حيث تتجمَّع الغالبيّة الساحقة من السُّكّان. ويُمثِّل هذا الأمرَ خطراً بنوعٍ خاصّ على الدوَل الجزرِيّةِ الصغيرة في المنطقة، فضلاً عن الجُزُر الطبيعيّة والاصطناعية. إضافةً إلى ذلك، يُمكن أن تُلوِّث المياهُ المالحةُ المياهَ الجَوْفيّة، ما يؤدِّي إلى تدهْوُرٍ حادٍّ للأراضي وخسائرَ فادحة في التنوُّع الحيويّ. ومن بين الآثار المرصودةِ، والمتوقَّع ازديادُها، لتَغيُّر المناخ في بعض البلدان العربيّة، أن يزداد التوسُّع الحضري/المَدنيّ وهجْرُ المناطق الرِّيفيّة. ومن المرجَّح أن يؤدِّي تَغيُّرُ أنماط هطول الأمطار، وتوسيعُ نطاق التصحُّر، وانخفاضُ الإنتاجيّة الزراعيّة إلى تقويض سُبُل العيش وتضاؤل فُرَص العمل في الريف، وتسريعِ الهجرة إلى المناطق الحضريّة حيثُ سيكون توفيرُ البِنْية التَّحتيّة والخدماتِ العامّةِ الملائمة تحدِّياً رئيسيّاً، لا سيَّما بالنَّظَر إلى احتشاد مجموعاتٍ سكّانيّة في المُدن محرومة من الخدَمات وأُخرى حاصِلة على أقلَّ ممّا يَلزم من الخدَمات. ويُضخِّم النُّمُوّ السُّكّانيّ تحدِّيات تَغيُّر المناخ من خلال تَزايُد الطَّلب على الغذاء والماء، فيما يَضع كذلك ضُغوطاً متزايِدة على استخدام الأراضي. وقد تَضاعَف عددُ سكّان البلدان العربيّة ثلاثَ مرّاتٍ تقريباً بين 1970 و2010، قافِزاً من 128 مليونَ نسَمة إلى 360 مليوناً. وتتنبَّأ شعبةُ السُّكّان في الأمم المتَّحدة بأن يَصل عددُ سكّان المنطقة العربيّة بحلول 2050 إلى 600 مليونَ نسمة ? أي 240 مليوناً أكثرَ ممّا هو عليه في عام 2010. وقد ينطوي تَغيُّرُ المناخ على إمكان التّسبُّب بعدَم الاستقرار أو النِّزاع. فمحاولات السُّكّان المحلّيِّين غيرُ المنسَّقة للمواجَهة أو للبقاء على قيْد الحياة قد تَشمل هجرةً غيرَ طوْعيّة، أو منافَسةً مع جماعاتٍ على الموارد الشحيحة، أو إثقالَ كاهِل قدرات الحُكم المحلّيِّ أو الوطنيّ. وقد تَكشف اتِّجاهاتٌ كهذه عن نفْسها في شكل نزاعاتٍ محلِّيّة وتوتُّراتٍ متصاعِدة حول الموارد. على رغم المؤشِّرات الواضحة على التّهديدات التي تُواجِه المنطقة، ما زالت الدوَلُ العربيّة على نحوٍ ملحوظ غيرَ مدرِكةٍ أنّ تأثيراتِ تَغيُّر المناخ عاملٌ يُهدِّد تنميتَها واستقرارَها. وقد انْضمَّ معظمُ الدوَل العربيّة إلى اتّفاقيّة الأمم المتَّحدة الإطاريّة في شأن تَغيُّر المناخ وبروتوكول كيُوتو، فضلاً عن عددٍ من المنظَّمات والمعاهَدات البيئيّةِ الدوليّة والحكوميّةِ الإقليميّة"لكنّ الوعيَ والمشارَكة في أوساط القادة المجتمَعيِّين والوطنيِّين تجاه تَغيُّر المناخ لا يزالان منخفِضَيْن. في هذه المنطقة، كما في مناطقَ عديدةٍ أخرى، نعرف أنّ صانعي القرار يميلون إلى تجنُّب اتِّخاذ قراراتٍ صعبةٍ ومُكلِفة. وسوف يُعبَّر عن هذا الاتجاه بالتّفاعل مع كوارث تَغيُّر المناخ عند وقوعها، بدلاً من العمل مسبقاً على تجنبها أو تخفيف تأثيراتها أو التكيُّف معها على نحوٍ مستدام. ومن دون أدنى شكٍّ، فإنّ ثمّةَ حاجةً لمعالجة الكارثة عندما تقع"لكنّ هذا الأمرَ لا يُمكن أن يكون الهدفَ الاستراتيجي. إنّ تنفيذَ التدخّلات الإنسانيةِ الهائلة هو في الواقع أكثرُ تكلفةً بكثيرٍ من بناء المرونة التي تحمي السكّانَ من الكوارث. فتأثيراتُ تَغيُّر المناخ التي لا يُستعَدّ لها تحمل أيضاً في طيّاتها إمكانيةَ كوْنها مزعْزِعةً للاستقرار. وسوف تتطلَّب الاستجاباتُ الفعّالة لتَغيُّر المناخ وجود قيادات ومؤسَّساتٍ قادرة على وضع وتنفيذ رؤيةٍ شاملة لمواجهة تغيّر المناخ. وتَستلزِم مكافحةُ تَغيُّر المناخ استجابةً متفانيةً، منسَّقةً، متعدِّدةَ الأوجُه، تعتمد على الصعيدَين الوطنيِّ والمحلِّيّ على التفاعُل بين مجموعةٍ من المؤسَّسات، من وزاراتٍ مركزيّة كوزارةِ الماليّة، إلى الوزارات القطاعيّة مثْل المياه والزّراعة، إلى القطاع الخاصّ، والمجتمعِ المدنيّ، والأوساطِ الأكاديميّة، ووسائلِ الإعلام. ويسعى المكتبُ الإقليميُّ للدوَل العربيّة في برنامج الأمم المتَّحدة الإنمائيّ إلى الإعداد لمبادرة إقليمية لمواجَهة آثار تغيّر المناخ وتوفير الدعم اللازم في هذا الإطار من خلال تعزيز القدرة على الاستجابات المتكاملة للتأثيرات والتحدِّيات المرتبطةِ بها. وتَستهدِف هذه المبادَرة التركيز على مستوى السياسات، وتعزيز قدرة المؤسَّسات على تحديد الأخطار والفُرَص المتاحة، وعلى التَّكيُّف مع ظروف تَغيُّرِ المناخ مع الوقت بطريقةٍ متكامِلة"كما ستُقدِّم الدّعمَ على المستوى الوطني لمؤسَّساتٍ تسعى لوضع استراتيجيات للتَّكيُّف مع تغير المناخ ونشاطات التَّنمية ذاتِ الكربون المنخفِض. واستناداً إلى المشاورات التي قمنا بإجرائها في كل من دمشق والقاهرة والمنامة هذا العام خلال الشهرين الماضيين والدراسات المتوافرة حول تحليل وقْع تغير المناخ وتقويم القدرات وبناءً على التوافق العربي الرسمي الذي تضمنه الإعلان الوزاري العربي حول التغير المناخي الصادر في كانون الأول ديسمبر 2007، يُرى أن تركز المبادَرة على معالجة ثلاثة تحدِّياتٍ أساسيّةٍ ، هي: أ نُدرة المياه والجفاف والأمن الغذائي. ب ارتفاعُ مستوى سطْح البحر وتآكل السواحل. ج الكفاءة في استخدام الطاقة والاستثمار في الطاقة المتجددة. لقد أثبتَت التجربة على نحوٍ لا لَبْسَ فيه أنّ المبادَراتِ الإقليميّة لا تكون ذاتَ وقْعٍ حقّاً إلاّ إذا قامت على أساس مشاوَراتٍ معمَّقة مع الجهات المعنيّة، وتَبادُلٍ مكثف لوُجهات النَّظر، وارتباط بهيئات معرِفيّة عالميّةِ المستوى ومختصَّةٍ بالمنطقة، وإشراكِ القادة السياسيّين، والأوساطِ الأكاديميّة، ووسائلِ الإعلام. ومن الضروري أن تعتمد المبادَرة الإقليمية لمواجهة آثار تغيّر المناخ هذه المنهجيّة لبناء القوّة الدافعة. ولذلك قمنا بإجراء مشاورات إقليميّة ووطنية لمناقشة تطوير استراتيجيات متكامِلة لمعالَجة تحدِّيات تَغيُّرِ المناخ. وتسعى المبادرة في الوقت نفسه إلى زيادة الوعي بالقضايا المطروحةِ وفهْمِها، وتحديدِ سرعةِ التقدُّم في صياغة السياسات، فيما تَحشد الجهاتِ الفاعلةَ الرئيسيّة على أعلى المستويات لتوجيه الاهتمام إلى ما يتعلَّق بهذا الأمر من السياسات، والإجراءاتِ الاستراتيجيّة. كما إنّ العمليّة التشاوُريّة ملائمة في هذا التوقيت فيما تستعدّ البلدانُ لمؤتمر قمة المناخ في المكسيك هذا العام. في هذا السياق، يسعى برنامجُ الأمم المتَّحدة الإنمائيُّ إلى المساهمة في وضع إطار إستراتيجي للتعامل مع تغير المناخ في المنطقة من خلال تأسيس نهْج متكامِل لا يتبنّى نهج التكيّف مع التأثيرات المستمرّةِ فحسْبُ، وإنما أيضاً نهج الحفاظ على النموّ الاقتصاديّ والتَّنميةِ البشريّة وتوسيعِهما. * الأمين العام المساعد للأمم المتحدة والمدير الإقليمي لمكتب الدول العربية لبرنامج الأممالمتحدة الإنمائي. والمنشور أعلاه مقتطف من الكلمة التي ألقيت في المنتدى الإقليمي للمبادرة العربية لمواجهة آثار تغير المناخ في الرباط في 3-5 تشرين الثاني نوفمبر 2010، الذي نظمه برنامج الأممالمتحدة الإنمائي بالتعاون مع الحكومة المغربية وشارك فيه وزراء البيئة العرب وجامعة الدول العربية