الفكر العربي شيء، والمفكرون العرب في هذه المرحلة شيء آخر. الفكر العربي ينبثق من تراث العروبة الغني بالإبداع الحضاري شعراً وأدباً وعلماً وفلسفة، مع التحرر التام من أي تلوث طائفي أو مذهبي أو طبقي أو عرقي يمس قيم العروبة ومبادئه الإنسانية الانفتاحية التي بلغت العالم الخارجي، فتبنتها أوروبا ومعها بقية القارات المنادية بالعدل والحق والحرية، والمساواة والدفاع عن الكرامة، والأسرة، الى جانب الدفاع عن السخاء والوفاء. وهي جميعاً من صميم التاريخ العربي القديم، أي من العمق الذي تكوّنت فيه العروبة وأكسبها مرور الزمن منذ آلاف السنين رسوخاً لا تجرؤ أي جهة فكرية أو سياسية في العالم على الشك في أسسه الواضحة. والمفكرون العرب، على تنوع درجات وعيهم وتفاوت إبداعهم السياسي هم قلّة، عددياً، وان كانوا قد وقفوا بإخلاص ضد حركات الاستعمار والاحتلال الأجنبية التي ضربت تقدم العروبة وتطور أنظمتها الاقتصادية والعمرانية والثقافية والاجتماعية، داخل الكيانات السياسية التي نشأت وأصبح عددها 22 كياناً تنتظم في 22 دولة هي أعضاء جامعة الدول العربية. والمفكرون على قلتهم، يتمايزون في التحليل والاستنتاج، ويختلفون حول مفهوم الدولة الحديثة، باقتباس النظريات الغربية، شيوعية أو رأسمالية، ثم اشتراكية أو ليبرالية، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ونزوع الصين للانفتاح الخارجي تجارياً، وفي جميع الحالات، ومع ما تبقى من القلة التي تتحرك في هذه الآونة، يضيع هؤلاء المفكرون بين التمسك بالنظام القومي العربي أو بالاستحياء العملي تجاه من يتّهم القومية العربية بالفشل، إثر ضياع فرصة الوحدة بين مصر وسورية 1958 - 1961، وإثر فشل مشاريع الوحدة اللاحقة. والفشل الناتج عن عجز المفكرين العرب بشأن الوحدة معرفياً ومنهجياً، لأجل إيجاد المخارج المؤدية لانقاذ العرب - أمة ووطناً وعالماً، من مشاكلهم، مع أنفسهم أولاً، ومع الآخرين ثانياً، له أسباب متنوعة، تبدأ بالنكسات المريرة التي أصابت تاريخ العروبة - منذ العصور القديمة - حتى القرن العشرين، والعثرات المتعددة التي وقعت فيها أنظمة الحكم، بين نفوذ أجنبي ونفوذ أجنبي آخر، حتى الوضع الراهن المتجمد فكرياً حيث لا تجديد ولا ابتكار. والمواطن العربي الصابر على النكسات بانتظار التغلب عليها لا يقدر على التعاون مع الآخرين من أبناء جلدته لفرض الإصلاح والتغيير، أو للحلم بثورة شاملة جامعة. من الوهم الاعتقاد بأن الأوضاع الدولية المسيطرة والمتحكمة بالمستقبل العربي قد تسمح بسهولة بتحقيق التغيير المطلوب خارج النصائح الخاوية التي تقدَّم للحكومات العربية بشأن تقويم الأوضاع وإدخال أنواع من الديموقراطية لا تصلح غالباً. وعندما تتحرك أزمة سياسية عربية فمن الضروري البحث عن أسبابها الفكرية وجذورها المعقّدة، بغية الأمل بإمكان علاجها والتخلص من احتمال تسرّبها داخل دول عربية أخرى. والأمثلة العربية أصبحت كثيرة، من فلسطين الى الصومال، ومن لبنان الى العراق، فاليمن المهدد، فالسودان في آخر قصة وآخر طبعة من السياسات الأجنبية المدبرة ضد البلدان العربية، وضد سواها. والاستفتاء الشعبي السوداني المقرر في التاسع من كانون الثاني يناير 2011، حول الاستمرار بالنظام الوحدوي القائم أو حول الانقسام وفصل الجنوب عن الشمال، يرمز الى المصير العام الذي يواجهه العرب، الذين لم يستطيعوا التوحّد في دولة كبرى تجمعهم بين المحيط والخليج، ولكنهم، مع الكيانات السياسية الحالية، والحدود الجغرافية التي فرضت عليهم من الخارج بشكل عام، يجدون أنفسهم معرضين للانفصالات بذرائع التنوّع الإتني داخل مجتمعاتهم أو الذرائع الطائفية والمذهبية أو أي نوع من أنواع المبررات المؤدية الى التقسيم، ظناً من الجهات الخارجية التي تؤيد التقسيم انها تؤمن مصالحها ولو كلفت هذه المصالح الشعوب المغلوبة على أمرها مئات ألوف الضحايا البريئة، علاوة على فقدانها حقها بسيادتها على بلادها وثرواتها. وقبل الوصول الى التاسع من كانون الثاني 2011، لمعرفة نتائج الاستفتاء، هذا إذا لم يُؤجل أو لم تتجدد النزاعات المسلحة داخل السودان قبل موعده، تنبغي الإشارة الى ان الضغوط الدولية والمداخلات الخارجية لتقسيم السودان تتزايد، وهي تهدد بإجراء الاستفتاء الشعبي في جو منافٍ للحرية والنزاهة وحسن الاقتراع، نظراً الى أن شروط الانفصال بين رسم حدود وتوزيع للسكان، لم تستكمل بعد، ومن غير الممكن الانتهاء من اقرارها خلال الأيام المعدودة الباقية قبل ذلك التاريخ، والتوقف عند وضع السودان ونظامه الحالي المعرض للتغيير، يظهر ان الدولة السودانية موزعة إدارياً الى 26 ولاية، منها 9 ولايات في الجنوب و17 في الشمال. وانتاج النفط الذي يبلغ حالياً 600 ألف برميل يومياً - رسمياً - توزع عائداته بنسبة 49 في المئة للجنوب و49 في المئة للشمال، ويعطى 2 في المئة للولاية التي يتم فيها اكتشاف النفط واستخراجه، وهذا يبيّن بوضوح ان الجنوب المهمل في بعض قطاعات الحياة الاجتماعية، بالنسبة الى الشمال مدلَّل أكثر من الشمال في حصته من النفط الذي تستخرجه مجموعات الشركات الصينية ومعها قلة من الشركات الأخرى. ومع التذكير بأن شركة النفط الأميركية"شيفرون"اكتشفت النفط في السودان عام 1965 وأعلنت بصراحة عن عدم نيتها الاهتمام باستخراجه واستثماره، لأنها تريد ذلك للأجيال الأميركية القادمة، ويبدو الآن ان واشنطن تفكر بنفط السودان وخيراته بطريقة ملحّة لمعالجة أزماتها الاقتصادية وفرصة الشركات الأميركية للانتقام من الشركات الصينية قد تكون في تقسيم السودان. والجانب الأمني الدقيق والخطير في الاستفتاء غير المأمون العواقب، هو احتمال نشوب اضطرابات ونزاعات مسلحة في البلاد، شمالاً وجنوباً وفي الوسط، حول دارفور، وعلى الحدود التي تنتشر على امتدادها عشر دول تحيط بالسودان، وهي مصر وليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو الديموقراطية زائير سابقاً وأوغندا وكينيا وأثيوبيا واريتريا وصولاً الى البحر الأحمر. ومع تعرض السودان في السابق لاضطرابات وخلافات مسلحة مع عدد من هذه الدول، فالأرجح أن يتعرض مجدداً لتحرشات عدائية إذا اقتضت المؤامرة الدولية على وحدة شعبه أن يتم التقسيم بالقوة، مهما حاول الحكم المركزي في الخرطوم توفير الاستعدادات الأمنية والدفاعية للحفاظ على الوحدة التي يتظاهر الجميع بالموافقة المسبقة على نتائج الاستفتاء الخاص بها، تحت ستار حرية الاختيار الديموقراطي، بينما تتنازع السودان تيارات ظاهرة وخفيّة تعمل بجميع الوسائل لإحداث القلاقل، التي لا يتوقف تأثيرها على السودان وشعبه وحسب، وانما قد تمتد أفريقياً وآسيوياً بفعل التأثيرات والعوامل والمصالح نفسها. ومما يلفت في هذا المجال ما صرح به الدكتور حسن الترابي من أن السودان مهدد بمصير مشابه لمصير يوغوسلافيا السابقة. فأين المبادرات المطلوبة من جامعة الدول العربية باسم العرب جميعاً، وأين يقف المفكرون العرب؟ وهل يقوم بينهم واحد، أو أكثر، ليرفض المأساة الجديدة التي تتهدّد العروبة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، في منأى عن تكرار الكلمات التي لا محتوى لها؟ * كاتب لبناني