ساهمت شبكة الانترنت في الفترة الأخيرة في تمرير مجموعات ضخمة من الصور القديمة التي تخص تاريخ بعض المجتمعات العربية الى بعض المهتمين. ويعود بعضها الى زمن قريب من زمن اختراع الكاميرا وهي في الغالب من تصوير مصورين أجانب عن المنطقة. تابعت شخصياً جانباً من حوارات جرت على صفحات الفيسبوك، وهي تخمّن توقيت الصور وأماكن التقاطها، أو تحاول ان تتعرف إلى هوية بعض الأشخاص الذين ظهروا فيها. لكن، وبعد الاطلاع على ذلك الكنز البصري الغني بمعلومات وتفاصيل تقبع في المنطقة الرمادية المشوشة، نجد أنفسنا أمام هذا السؤال: لماذا لا تتاح تلك الصور للعامة؟ وفي الأساس لماذا تغيب صور الأفراد في مجتمعاتنا عن المشهد العام، كأن الصورة الواحدة الرسمية جبّت كل الصور الخاصة بالذاكرة البصرية للأوطان؟ يعدّ حفظ الوثائق التي تشكل ذاكرة الأمة مسلكاً عريقاً في المجتمعات المتقدمة، ليس بمعنى ما هو مكتوب وموثق على الورق فقط، وإنما بمعنى حفظ الصور وكل ما يشكل دليلاً بصرياً على التاريخ. وتزخر تلك المجتمعات بأرشيف بصري عريق محفوظ في الكنائس، والنقابات، والمنظمات النسائية، والبلديات، ومقر البرلمان، ومقر الحكومة، ومقرات الموانئ القديمة، والشركات والمصانع العملاقة، وكل ما يخطر في البال من مؤسسات كان لها حضور وتأثير يوماً ما في المجتمع. وتحفل تلك المجتمعات بمتاحف متخصصة تتعامل مع تراثها من الصور بنظرة فنية تضاف الى قيمتها الاجتماعية. في لندن مثلاً، تأسس متحف"ناشيونال بورتريت غاليري"في منتصف القرن التاسع عشر بغرض الاحتفاء بالرجال والنساء الذين شكلوا تاريخ بريطانيا وثقافتها، وذلك من خلال فن البورتريه، كما يقول التعريف الخاص بالمتحف. وتترواح المقتنيات والعروض ما بين التصوير الفوتوغرافي والرسم والتصوير الزيتي والنحت بكل خاماته. تابعت خلال سنوات عشرات المعارض التي تنبش في الثروات البصرية وتحاول ان تستقرئ منها مقاربة جديدة لأحداث الماضي وشخوصه. من تلك، مثلاً، المفاهيم الاجتماعية والثقافية في بريطانيا من خلال سبر الخطوط العامة للأزياء، وهي كما هو معروف، تعكس القيم التي تحكم علاقة الناس بأجسادها، فالملابس في مضمونها ليست مجرد تغطية للأجساد. اللوحات التي عرضت تكشف عن التكلف السائد عند الطبقات العليا، في القرن السادس عشر، حين ظهرت الملابس المغرقة في تفاصيل تكاد تغطي مجمل الجسد بل وتزيفه أيضاً. من ذلك، باروكات تخفي الشعر الحقيقي، وماكياج يخفي خطوط الوجه بالبودرة البيضاء البورسلانية، وياقات عالية تغطي كامل الرقبة... الخ. وعند النساء انتشرت الثياب المنتفخة عند الخاصرة بمساعدة أسلاك مثبتة أسفلها، ناشرة دائرة حول المرأة بمسافة معينة، تشكل حاجزاً بينها وبين الآخرين. ولمتاحف الصور إدارات متخصصة ومجالس أمناء، وما يسمى ب"أصدقاء"المتحف او الغاليري. وكلها تعمل على تطوير الأنشطة وتفكر بطرق جديدة لاستجلاب التمويل اللازم وتتوصل الى أفكار اضافية من معارض وهدايا تذكارية واستثمار للصور والأعمال الفنية. تقبل التبرعات المالية او العينية، وتشتري من مجموعات الأسر والأفراد والمصورين، وتعقد الشراكات مع المؤسسات التجارية والثقافية لرعاية الكثير من أنشطتها، ومن بينها الجوائز. ولا تتوقف الأنشطة عند الماضي، فهناك برامج لتخليد الحاضر بصرياً يترك للأجيال القادمة ليساعدها على فهم الماضي، الذي هو الحاضر الآن. لذا يتم تكليف فنانين معروفين بالتقاط صور فوتوغرافية او إنجاز لوحة او منحوتة، للشخصيات الشهيرة، أياً كان سبب شهرتها، سياسياً، فنياً، أدبياً، إعلامياً، اجتماعياً، علمياً، طالما أن هؤلاء الأفراد شكّلوا جزءاً من ذاكرة المجتمع وثقافته. بهذه الطريقة تقوم تلك المتاحف بأدوار عدة في آن، فهي تحفظ التاريخ بصرياً، تقدّر الأفراد المؤثرين في المجتمع وتخلّدهم، وتحتفي بفن البورتريه العريق وبالفنانين الذين يقدمون انجازاتهم فيه. في عودة الى المنطقة العربية، نشير الى زخم الصور المتداولة على الشبكة العنكبوتية التي تكشف تاريخاً بأكمله من ملابس وأثاث وطبيعة جغرافية وتخطيط مدن، وحتى تفاصيل تاريخية غير متداولة في الذاكرة الحديثة، مثل أن دمشق قصفت بالطيران الألماني في فترة الحرب العالمية الثانية، أو صور إعدام أفراد من جانب الاحتلال الفرنسي لاتهامهم بالتجسس لمصلحة حكومة هتلر. لماذا لا نعرف من هم، أسماؤهم، من أي قرية أو مدينة؟ هناك صور لأطفال في حي شعبي في مدينة حلب عام 1917، فقراء، ضعاف البنية وشبه عراة، قريبي الشبه بأطفال افريقيا الجائعة الآن. لقد حكى لنا أجدادنا عن الجوع الذي مرّ بالبلاد في فترة الحرب العالمية الأولى، ولكن الصورة كانت أبلغ من أي كلام شفهي أو وصف مكتوب في وثيقة. هذه الصور التي يوفرها المهتمون بتاريخ مجتمعاتهم على الانترنت أو الفيسبوك وغيرها، تقدم خدمة كبيرة للبعض، لكنها تبقى محدودة الانتشار، كما ان الصور المتوافرة بحاجة الى مزيد من التمحيص والتوثيق الأكاديمي، ولا يمكن أن تبقى في حدود التخمينات والذاكرة الغائمة. إن زخم النقاشات حول تلك المجموعات يكشف عن غياب فاقع للمؤسسات التي ترعى الأرشيف البصري في المجتمعات العربية. ولا تحتاج البادرة لإقامة مثل هذا المتحف سوى الى جرأة وسعة أفق واحترام لدور الافراد. لقد شاهد الناس ما يكفي من صور للجموع وهي تستقبل الرؤساء والحكام وكبار الضيوف، او تخرج في تظاهرة احتجاج أو تأييد. وقد آن الأوان ان نحتفي بالأفراد، بأسمائهم المجردة وصفاتهم الاجتماعية أو الوظيفية او الابداعية، من منطلق انهم قدموا نصيبهم من العطاء لمجتمعاتهم، وكان لهم دور في دفع حركة التاريخ وصوغه في شتى المجالات.