قد يجد قارئ اليوم في هذا الكتاب فائدة ومتعة. ففائدته، كما حددها الأب أنستاس ماري الكرملي يوم نشره مقالات متفرقة في صحيفة"الأهرام"القاهرية، ثم جمعها، مع ما أثارت من تعليقات وردود متبادلة، في كتاب كانت الغاية منه"ان يطلع أصحاب الكفاية على ما نكتب ليدلونا على أوهامنا، وأغلاطنا، لنصلحها ونرجع عنها"ص7. وأما متعته فهي في ما جاء فيه من"تنابذ"بالعلم والمعرفة، ومن"تسفيه"بلغ بالقائل حدّ الشتيمة المقذعة، ما نتمثل من خلاله صورة عن"ثقافة الاختلاف"وكيف كانت بالأمس القريب... إذ لم يكن للأب الكرملي ما أراد، فكان هناك من أخذ عليه أسلوبه في الكتابة، وهناك من تمادى في القدح متهماً إياه بأنه"لا يحسن الكتابة"، ولذلك، وبحسب صاحب الرأي، من العبث"أن يتعرض أي الكرملي لهذا البحث وأمثاله". فردّ الكرملي على منتقديه متهماً إياهم بأشد التهم، واصفاً إياهم بأقذع الأوصاف، خصوصاً وهو يجدهم ولا أحد منهم قد تعرّض في ما كتب لأصل البحث، ولا أبان له غلط ما ذهب فيه، هو الذي قصد"إصلاحاً لما في اللغة من الأوهام... وإجلاءً لما في بعض أقوال اللغويين من المبهمات"ص 8. ومن هنا فهو كتاب بوجهين: وجه يجلو رأي كاتبه في مسائل لغوية، وردود الآخرين عليه بين معارض لما قال أو جاء به من رأي، أو متفق معه في ما ذهب فيه وإليه قصد، وبعض ثالث اتفق مع بعض ما ذهب فيه، واختلف معه في بعض آخر... ولم تكن أسماء بعض أصحاب هذه الآراء مجهولة، فهناك أسعد خليل داغر، ومصطفى جواد، وبشر فارس... وتواقيع أخرى إن حملت أسماء مستعارة فإن ذلك لا يغض من أهمية ما جاءت به من رأي، على رغم أن الكرملي وصف أصحابها ب"القابضين على اليراعة، ممن لم يتقنوا الكتابة، ولا عرفوا أسرار اللغة..."ص324. وأما الوجه الآخر فتتمثل فيه شخصية كاتبه، لا في علمه وحده، وإنما مع العلم هناك النظرة الى"الذات"التي نجده يعلي من شأنها، وهو الذي"يظن في نفسه أنه أعلم علماء العصر"، كا جاء في قوله مدافعاً عن نفسه ص328. وأما النظر الى الآخر، فهو إن توافق معه رفع من شأنه وأعزّه بأغلى كلمات المديح وآيات الثناء، مع التأكيد المصاحب على شخصه هو بما يرى فيه نفسه، فهو لا يثني على الآخر وينسى نفسه، بل نجده حاضراً بكامل ما يرى فيه نفسه. اما إن خالفه النظرة واختلف معه في الرأي، او خطّأه في ما يقول، فلا نعود نعرف، ونحن نقرأ ما يقول فيه، أي منقلب انقلبت به الكلمات قدحاً وهجاءً، حتى ليمكن وصفه بأنه"أهجى اللغويين في عصره"، وإن كانت عدّته في الهجاء النثر لا الشعر، بل نجد نثره الهجائي يوازي أهجى ما قالت العرب في الهجاء شعراً. ونقف من هذا الكتاب على شيء يخص الكرملي نفسه، تكويناً ومزاجاً. فهو إذ يناقش معترضيه، ويردّ على منتقديه لا يكتفي بإيراد الصواب، كما يراه، وكشف ما وقعوا فيه من خطأ، وإنما يتجاوز ذلك الى أشخاصهم، التي قد يكون لا يعرف عنها إلّا ما تبدى له منها من خلال ما كتبت، فيجد أحدهم"يكاد يكون مصاباً بداء في دماغه"ص7، ويصم آخر بما يجد فيه"من جهل مبادئ النطق، وخبث في النفس، ونذالة في العنصر"ص7، ويصف ثالثاً بكونه"رجلاً جامداً أكل الحسد معظم دماغه وكل ما في داخل صدره"ص324. ولم يسلم كبير أو صغير، علم أو مجهول، من شفرة قلمه أو لسانه... فأسعد خليل داغر فاسد الأفكار، الى جانب"جهله العربية، وقواعدها، وضوابطها، وأسرارها..."ص327. ويقول عن آخر إنه"أظهر بكلامه ما في رأسه من الفراغ الذي لا يؤبه له"ص327. أما من دافع عنه، ووقف الى جانب ما يقول ويرى، وفي طليعتهم مصطفى جواد، فنجده يعلي من شأنهم، جاعلاً من مصطفى جواد"بطلاً من الأبطال"، وواصفاً إياه ب"اللغوي القدير الذي أدهش الناس بسديد آرائه ومحكم أفكاره"، وهو عالم"صادق العلم"ص328. وأما بشر فارس الذي تعرّض لآرائه بإيجابية في ما كتب، فهو"على جانب عظيم من الفطنة"ص328. فماذا قالوا فيه لينال الممدوح منهم هذا المديح، ويصيب مخالفه الرأي والمذهب مثل هذا القدح؟ فأسعد خليل داغر، مثلاً، احتج على ما قاله، فعدّ احتجاجه تطاولاً"على الذين جلوا في مضمار اليراعة وصاروا أقماراً ساطعة الأنوار في سماء النبوغ والبراعة"، وذكر منهم بطرس وعبدالله البستاني، وسعيد الشرتوني، وقد اتهمهم الكرملي بما جاء في معاجمهم من غلط متكرر ص14، ناسباً تكرار الغلط الى الكرملي نفسه ص15، واصفاً ما يكتبه بأقسى ما توصف به كتابة كاتب. فهو"يأتي بجمل وتراكيب مفرغة في قالب الركاكة، ونابية عن منهج الفصاحة والبلاغة". ويأتي بالشواهد على ما يقول مما كتب الكرملي نفسه. فإذا ما دخل مصطفى جواد الحلبة حكماً، انتصر للكرملي على"خصمه اللغوي"مشيراً الى ما تضمنته"تذكرة الكاتب"لداغر"من الغلط والى جمودها ورجوعها بالعربية الى عهد الجاهلية"، وأضاف:"ولولا استيقاني أن نية صاحبها سليمة وغيرته على العربية صادقة لاتهمته في ما كتب، ولعددته من المأجورين على تكريه العربية الى الناس وتعجيزها بين لغات العالم..."ص 18 - 19. ويغير الكرملي على داغر متهماً إياه بأنه فعل ما فعل"طالباً من وراء ذلك شهرة، أو سمعة طيبة، أو أمراً لا نعرفه..."ص51. متهماً إياه، كما اتهمه مصطفى جواد، بأنه"يعيش في عصر غير عصرنا هذا، عصر النور، بل في عصر أصحاب الكهف، ولعله أحدهم..."ص51. الى ما يلحق بهذا الاتهام من تعبيرات مشفوعة بالسباب والشتيمة أكثر من كونها"رداً"على قول أو"نقداً"لرأي... مزيلاً ما وجّه إليه من تهمة فحواها الإساءة الى أعلام اللغة، فيجده هو الذي قد أساء الى آل البستاني واليازجي وحقرهم"كل التحقير"حين قال واصفاً إياهم:"الذين جلوا في مضمار البراعة"، ليجده، على حد رأيه، أبقاهم في"المضمار"ولم يمنّ عليهم"بأن يجروا في"الميدان"أو في"الحلبة"..."ص54. أما في ما ذهب فيه داغر من رأي فيرد عليه الكرملي بالقول:"ويا ليت أنه خبط فيها خبط عشواء، فإننا لنحسد هذه الناقة على خبطها إذا ما قسناه بالخبط الداغري"ص76. ويدخل بشر فارس حلبة الصراع محاولاً إصلاح ذات البين بين الفرقاء، فيرى أن منزلة الأول داغر غير منزلة الآخر الكرملي،"فكلا العالمين موقفه من موضوعه يختلف عن موقف صاحبه، ذلك أن الأب الكرملي يشتغل بفقه اللغة، على حين أن الأستاذ داغر يعنى بقواعدها"و"بين فقه اللغة وقواعدها ما بين فلسفة التاريخ وسياقة الأخبار، بل ما بين العقليات والنقليات"ص79، من دون أن ينزه الكرملي، في مقال آخر له، من الوقوع في"سقطات في فقه اللغة". ويبلغ الحال بالكرملي في الرد على خصومه مبلغاً حين يصف واحداً من مناصري داغر، بأنه"لا يقوى على القيام على رجليه"، ناعتاً إياه بضعف العقل ص84. ويكتب آخر بتوقيع"لغوي"فيأخذ على الكرملي كونه"ليس كاتباً بل نسابة للألفاظ". كما يأخذ على مصطفى جواد، المناصر الأكبر للكرملي، فيصفه بأنه ليس"بالحكم الترضي حكومته"لأنه، كما يرى صاحب التوقيع،"إباحي يجيز كل شيء"ص176. فيصفه جواد، في رده عليه، ب"المدعي"، فضلاً عن أنه"مبتدئ في دراسة العربية متناقض الآراء..."ص178، ويتمادى في"وصفه الهجائي"له فيصفه ب"الذبابة التي تحاول أن تحجب نور الشمس بجناحيها"ص179. ويثير الكرملي بآرائه حفيظة"أزهري"، وصفته صحيفة الأهرام التي نشرت مقاله بالأستاذ العالم، وقد وجد"العنوان يخالف الرسالة. فالعنوان أغلاط اللغويين الأقدمين، وما في الرسالة لم يبيّن أغلاطاً للغويين الأقدمين إلاّ ما أراد الكاتب أن يظهر به مَن مِن مظهر الحاكم على اللغويين الأقدمين"، مشيراً الى أنه"ليس في الكلمة أغلاط للغويين الأقدمين، إنما فيها متابعة لهم، واغتراف من علمهم، وتتبع لآثارهم، وإعادة لقولهم، ثم الزعم بأن ذلك تخطئة لهم، وبيان لأغلاطهم"ص282 - 283. وقد تقدم ال"أزهري"ببيانه على ذلك، مطالباً الكرملي أن يذكر لنا"القواعد الكلية التي يبني عليها تغليط اللغويين الأقدمين، ويمثل لكل قاعدة بمثال، لنناقشه في هذه القواعد، ونبيّن أهي يقينية، يصح أن يبنى عليها تغليط، أم هي دون اليقين، فلا يصح أن يبنى عليها تغليط"ص290. فردّ عليه الكرملي مطالباً إياه بالرجوع الى ما حرره الكرملي في هذا المجال،"فإن فيه نحو عشرة تصويبات، فليرض بتسميتنا تلك، فيكون اطلاق عنواننا على كتابتنا المذكورة من باب تسمية الكل باسم الجزء، كما هو مقرر في كتب القوم"ص291، ناعياً عليه اطالته في ما كتب. * أغلاط اللغويين الأقدمين - تأليف أنستاس ماري الكرملي - منشورات دار الوراق للنشر - لندن، بغداد: 2010.