ماذا يدور داخل القمم السياسية المغلقة؟ هذا هو السؤال الذي طرحناه في المقال الماضي والذي جعلنا، في مجال التماس الإجابة عنه، نشير إلى الكتاب الذي ألفه المفكر الفرنسي المعروف جاك أتالي"صورة طبق الأصل Verbatim"والذي نشره عام 1993. وسجل فيه أتالي نصوص اليوميات التي سجلها في حينه باعتباره مستشاراً للرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران، وبهذه الصفة حضر بنفسه كل المقابلات الثنائية التي أجراها رئيس الجمهورية الفرنسية مع قادة وزعماء العالم. وقد رجعنا إلى كتاب جاك أتالي لأن من شأنه أن يلقي الأضواء على المحادثات السياسية في أروقة السلطة الخفية بالخلفيات التي يكتبها عن كل مقابلة أو حدث أو مكالمة تلفونية بين ميتران وأحد الزعماء. يصف أتالي الرئيس فرانسوا ميتران بأنه كرئيس لفرنسا في المرحلة التاريخية التي تولى فيها الرئاسة كان يتمتع بسلطة سياسية شبه مطلقة، فكأنه ديكتاتور وليس رئيساً لجمهورية ديموقراطية، كما أنه تولى الرئاسة في لحظة حاسمة من لحظات التاريخ العالمي. وبالتالي استطاع أتالي، باعتباره مستشاراً خاصاً لميتران، أن يكون شاهداً على الأحداث المهمة، ومشاركاً فيها أيضاً في الوقت نفسه. وذلك لأنه أسهم في صياغة كل قرارات السياسة الخارجية الفرنسية التي اتخذها رئيس الجمهورية، والذي هو في العرف السياسي الفرنسي المسؤول الأول عن صياغة السياسة الخارجية. ليس ذلك فقط بل إنه، كما يقرر، أسهم في صياغة العديد من القرارات الخاصة بالسياسة الداخلية لفرنسا. ويقول اتالي أنه منذ اللحظة الأولى لتوليه مهام منصبه المهم قرر أن يسجل يومياً في شكل متكامل مشاهداته وملاحظاته وخلاصة المناقشات التي دارت حول موضوعات شتى خارجية وداخلية، خصوصاً لأنه شهد كل لقاءات رئيس الجمهورية مع قادة وزعماء العالم. وسمح له هذا الوضع الاستثنائي أن يستمع مباشرة الى المحادثات المهمة التي كانت تدور بين ميتران وقادة وزعماء العالم. وهذه اليوميات، كما يقرر كاتبها، لا تتضمن بالضرورة محاولة للتأليف من عناصرها المختلفة، ولا تتضمن صياغة متماسكة عن كيفية وآليات ممارسة السلطة في أعلى قممها، ولكنها تنشر كما كتبت للمرة الأولى. وهي بهذه الصورة تتيح للباحثين فرصة نادرة لمعرفة قدر التعقيد الشديد في ممارسة سلطة عليا ما في إحدى البلاد الأوروبية المركزية، وذلك بالنظر إلى تعدد المواقف التي تحتاج إلى إصدار قرارات فورية في بعض الأحيان، ومتأنية في أوقات أخرى. غير أنها جميعاً لا بد من أن تستند إلى قراءة واعية للأحداث وإطار استراتيجي متماسك، يسمح بأن تكون عملية إصدار القرار عملية رشيدة. ولا ينسى أتالي في تقديمه أن يشير إلى المسؤولية العظمى التي تقع على كاهل رئيس الجمهورية الذي يتشكل وعيه السياسي وإدراكاته الدولية من قراءة التقارير الاستراتيجية التي يعدها له الخبراء، ولكن بالإضافة إلى ذلك من مشاهداته المباشرة ورحلاته الخارجية، ومحادثاته مع قادة وزعماء الدول. ويقرر أتالي أن اليوميات التي تضمها كتابه قد يعتبرها البعض أطول مما ينبغي نشرت في جزءين وكل جزء يقع في أكثر من خمسمئة صفحة، وقد يعتبرها البعض الآخر نقدية في شكل غير موضوعي تماماً. غير أنه لكي يتحاشى هذه المثالب حاول أن يجعلها تحكي عن النجاحات والإخفاقات معاً، وعن لحظات الضعف ومواطن العظمة في الوقت نفسه. ومن الأهمية بمكان أن نشير إلى ما قرره المؤلف من أنه عرض أصول كتابه على شخصين فقط قبل النشر: الأول هو ناشره كلود جورانز والثاني هو الرئيس فرانسوا ميتران، والذي كان من حقه أن يشطب أي فقرات لا يرى ملائماً نشرها على الملأ. غير أنه، كما يقرر أتالي، لم يمارس حقه وسمح له بنشر اليوميات كما هي، في احترام واضح لحرية التعبير. وقد حاولت أن أختبر أهمية البحث عما يدور في القمم المغلقة من خلال ما أورده كتاب أتالي عن زيارة الرئيس حسني مبارك إلى باريس في أول شباط فبراير عام 1982، ومقابلته الرئيس فرانسوا ميتران راجع كتاب أتالي الصفحات 162 الى 164. يروي أتالي أن الرئيس مبارك قال مخاطباً الرئيس فرانسوا ميتران إن العلاقات مع إسرائيل تسير من دون مشكلات، وذلك ما عدا عدم الموافقة على الطلب المستحيل الذي تقدم به رئيس وزراء إسرائيل آنذاك مناحيم بيغن للسماح للطائرات الإسرائيلية التي تنقل سياحاً أوروبيين أن تعبر سماء سيناء للهبوط قرب إيلات. وأكد مبارك الرفض المصري لهذا الطلب. أما في ما يتعلق بالعلاقات مع الدول العربية فقد قرر الرئيس مبارك أن مصر جاهزة لاستئناف العلاقات مع أشقائها العرب في الوقت الذي يرونه مناسباً لهم. وأضاف أن استئناف هذه العلاقات حين تستأنف لن تضر إسرائيل بالضرورة، وذلك لأن مصر اختارت طريق السلام، ولذلك أقامت علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل. وقرر أنه لن يضع هذه العلاقات محل بحث أو مراجعة، لأنه يعتقد أنها، على العكس، من شأنها أن تكون عاملاً إيجابياً في مجال التخفيف من خطورة الأزمات التي يمكن أن تنشب داخل المنطقة. وفي فقرة بالغة الأهمية قرر الرئيس مبارك"أننا اكتشفنا من خلال محادثاتنا مع إسرائيل أن ثمة هوة كبرى تفصل بين مفاهيمنا عن الاستقلال الفلسطيني ومفاهيم الإسرائيليين". فالإسرائيليون يعنون بإقامة سلطة فلسطينية مستقلة، كياناً يمارس سلطته على الأشخاص وليس على الأراضي، وهذا غير مقبول. لأنهم يريدون استبدال الحكم العسكري الإسرائيلي بسلطة فلسطينية محرومة من إمكانات التشريع والدفاع وإقامة الأمن الداخلي واتخاذ مواقف مستقلة في مجال السياسة الخارجية. ومعنى ذلك أنها سلطة فلسطينية محرومة من كل الحقوق الفعلية لأي سلطة شرعية. وقرر الرئيس مبارك بصورة قاطعة أنه"ليس مستعداً لتقديم تنازلات في هذا الصدد". وتبين من السياق أن مصر طلبت أن تؤيد فرنسا مطلبها في أن لا تكون القوات التي ستفصل في سيناء بين إسرائيل ومصر أميركية خالصة وإنما تتشكل من عناصر أوروبية أيضاً. ورد عليه الرئيس فرانسوا ميتران مقرراً أنه تبنى هذه الفكرة فوراً لمصلحة مصر، غير أنه، كما قرر، واجه بعض الصعوبات في إقناع شركائه الأوروبيين وخصوصاً بريطانيا العظمى. ويسأل ميتران مبارك: ما الذي ينتظره من وجود القوة المتعددة الجنسيات في سيناء؟ ويجيب مبارك أن اختصاصات هذه القوة معرّفة بوضوح في نصوص المعاهدات. وهي تتمثل أساساً في مراقبة التطبيق الواضح لهذه النصوص، ومنع إسرائيل من إفقادها مضمونها من خلال تحركات مقصودة تمثل مخالفات واضحة. وأضاف مبارك: أن قائد القوات الأميركية حاول أن يتجاوز صلاحياته، ما يمثل اعتداء على السيادة المصرية. غير أننا عارضنا بعنف هذه المحاولات. ومن هنا الأهمية القصوى لاشتراك البلاد الأوروبية خصوصاً في القوات المتعددة الجنسيات حتى يكون أداؤها متوازناً ومتفقاً مع نصوص المعاهدات. وفي فقرة مهمة أخرى يقرر ميتران أنه في ما يتعلق ب"إعلان البندقية"فإنه يوافق بطبيعة الحال على هدفه النهائي وهو حق إسرائيل في الوجود وحق الفلسطينيين في تأسيس وطن لهم، غير أنه لا يوافق على الإجراءات التي اقترحها وهي القيام بمفاوضات عربية جماعية مع إسرائيل لأن هذا إجراء غير واقعي. وتساءل كيف يمكن أن يجتمع حول طاولة مفاوضات واحدة كل من سورية والمملكة العربية السعودية، وعرفات وإسرائيل ومصر والقذافي، وذلك في محاولة للوصول إلى حلول؟ ولذلك هو يفضل مفاوضات جزئية وليست جماعية. وإذا أردنا أن نستخلص الدرس من قراءة هذه النصوص الحرفية المهمة التي نشرها جاك أتالي عن لقاء الرئيسين مبارك وميتران في شباط فبراير 1982 لقلنا إنه يتمثل في ثلاثة أمور على أكبر قدر من الأهمية: الأمر الأول هو إصرار مبارك على ألا يؤدي أي طلب إسرائيلي إلى المساس بالسيادة المصرية، باعتبار أن احترام هذه السيادة تراث وطني مصري أصيل، دافعت عنه أجيال سياسية مصرية شتى منذ استقلال مصر كدولة حتى الآن. والأمر الثاني دفاع الرئيس مبارك عن حقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة التي تتمتع بكل الصلاحيات المعترف بها للكيانات السياسية المستقلة، ولذلك قرر بوضوح قاطع أن مصر ليست مستعدة للتنازل في هذا المجال. والأمر الثالث والأخير الحرص الشديد على العلاقات المصرية العربية والتي وإن كانت اتفاقيات كامب ديفيد بما صحبها من سوء فهم وخلاف سياسي قد أدت إلى مقاطعة عربية لمصر، إلا أن الحقيقة التاريخية تؤكد أن هذه العلاقات ذات طبيعة استراتيجية، ولا يمكن لها إلا أن تتواصل وتتعمق في كل المجالات. * كاتب مصري