طوال أعوام، أغدق المانحون الغربيون الاموال على جنوب السودان. واحتذت ادارة أوباما على ادارة سلفها، ومدّت جنوب السودان ب300 مليون دولار سنوياً لتعزيز حكومة سلفا كير، قبل الاستفتاء على الاستقلال عن الشمال، في مطلع العام المقبل. وعلى رغم المساعدات الكبيرة، لم يخطُ مشروع كير الاصلاحي خطوات كبيرة. ويتهدد السودان اندلاع حرب أهلية جديدة، في وقت لم تندمل بعد جروح الحرب السابقة التي أودت بحياة مليوني سوداني، ودامت 22 عاماً. وينبّه مستشارو الحكومة الاميركية إلى أن عملية بناء الدولة بجنوب السودان يتهددها الاخفاق والفشل. ويرى ديبلوماسيون غربيون أن المنطقة غير مهيأة لاستقلال جنوب السودان. ولا يخفي كير قلقه من فقدان واشنطن اهتمامها بقضية شعبه. ويقول:"لطالما حسبنا ان اميركا قادرة على كل شيء. ولكن يبدو أن توقعاتنا لم تكن في محلها. وشاغل أميركا اليوم التزامات أخرى". ويبدو أن جنوب السودان يمتحن قدرة اميركا على اصلاح شؤون منطقة قصية. وعلى رغم ان النهج الاصلاحي في السياسة الخارجية الاميركية راسخ، أسهم تعثر عملية بناء الأمة في العراقوافغانستان في الطعن بقدرات الولاياتالمتحدة. وتعالت اصوات السياسيين الذين يتساءلون عما اذا كان في وسع أميركا مواصلة تمويل برامج مساعدات طموحة في الخارج. ومشروع بناء الامة في جنوب السودان هو من تركة الرئيس بوش. فإدارة الرئيس السابق أسهمت في ابرام اتفاق السلام الذي طوى الحرب بالسودان، قبل خمسة اعوام. وأميركا هي أكبر المانحين في السودان. فهي قدمت، الى اليوم، 6 بلايين دولار. والسودان يتلقى حصة الاسد من برنامج مساعدات"يو أس ايد"، بعد افغانستان وباكستان. وفي نهاية الحرب الاهلية بالسودان، اقتصرت مساحة الطرق المعبدة على 3 أميال في منطقة شاسعة مساحتها تضاهي مساحة فرنسا. واليوم، تزدهر جوبا، عاصمة الجنوب السوداني، على وقع حركة عمال اغاثة اميركيين. والى وقت قريب، كانت المنازل في جوبا أكواخاً من خشب وقصب. وارتفعت كلفة الايجارات هناك، وبلغت 12 ألف دولار شهرياً، على ما يقول ديبلوماسي غربي. وكلفة سيارة الاجرة تساوي كلفة نظيرها في مانهاتن. وتنظم الفنادق حفلات سهر يقصدها الاجانب والعاملون في فرق الاغاثة. وكلفة ايجار غرفة فندق مبتذل تبلغ نحو 800 دولار. وعلى رغم الصعوبات وتعثر عميلة بناء الأمة، موّلت المساعدات الاميركية والدولية تشييد وزارات ومدارس وشق الطرق. ولكن لا شيء يشير الى أن دولة جنوب السودان قابلة للحياة. وبحسب تقرير صادر عن منظمة التنمية الاميركية في حزيران يونيو 2010، تفتقر عملية بناء الأمة بجنوب السودان الى مخطط منهجي واستراتيجي. وأهداف العملية هذه غير محددة، ويصعب، تالياً، تقويمها. ويوجه الاميركيون سهام اللوم الى حكومة جنوب السودان التي تفتقر الى الكفاءة. ورمت مساعدات الدول المانحة الى تشجيع ارساء حوكمة ناجعة. ولكن قلة من موظفي دوائر حكومة جنوب السودان تجيد القراءة والكتابة. و85 في المئة من قوات الامن أميون. وعدد كبير من الجنوبيين السودانيين الحاملين شهادات جامعية غربية لم يعودوا أدراجهم، إثر انتهاء الحرب. وأعلن البنك الدولي، وهو يدير صندوقاً يخصص نصف بليون دولار لجنوب السودان، أنه لم ينفق سوى أقل من نصف موازنته فحسب جراء ضعف امتصاص الاموال والقدرة على تصريفها في قنوات اجرائية مناسبة. ويشير مسؤولون عاملون في مؤسسات إغاثة في جوبا الى عيوب عملية ارساء الدولة بجنوب السودان. فهذه رجحت كفة عملية"تعافي"المنطقة من طريق توفير خدمات اجتماعية حيوية، على كفة بناء المؤسسات. ويرى مسؤول في عمليات الاغاثة بجوبا أن عملية بناء المؤسسات أُوكل الى الاشخاص غير المناسبين. و"وجب علينا الاستعانة بقدامى البريطانيين الذين وضعوا أسس مصرف بوتسوانا المركزي. وعدد كبير من الاشخاص الملمين بعملية بناء الدول يمضون وقتهم على شواطئ زنجبار. وعوض الاستعانة بهم، وظفنا متخرجين من أوكسفورد ونخب جامعات شمال شرق اميركا. ولا يُعتد بخبرات هؤلاء في بناء المؤسسات". ويأخذ الخبير الاقتصادي، ويليام ايسترلي، على الدول المانحة اغداقها أموال المساعدات على جوبا من غير تخطيط. فخبراء الاغاثة يختلفون في الرأي، ولا ينسقون جهودهم. وأهداف المساعدات آنية، وليست طويلة الامد. والنخب السودانية المتعلمة تختار العمل مع المنظمات غير الاهلية الاجنبية، وهذه تقدم رواتب مرتفعة القيمة، عوض العمل في المؤسسات الحكومية. ولسان حال رجال الأعمال في جوبا هو الشكوى من"تشويه"أموال المساعدات الاقتصاد المحلي. فوكالات الاغاثة تسهم في غلاء الاسعار ورفع كلفة اليد العاملة."وكلفة اقامتي في فندق ريتز بشيكاغو أبخس من كلفة اقامتي في فندق متداع بجوبا"، على ما يقول رجل الاعمال ايان ألسورث ? الفي. وتنظم شركة رجل الاعمال هذا دورات تدريبية لعمال محليين، وتعلمهم أصول الحساب ومهارات مالية. وفور اكتساب المهارات هذه يتركون العمل في المصنع، ويلتحقون بصفوف وكالات الاغاثة على أمل تحسين مستوى معيشتهم. وقد يسهم اغداق المساعدات الكبيرة على جنوب السودان في انبعاث العنف. فالفصائل السودانية المتنازعة قد تطمع في السيطرة على حكومة جوبا التي تستقطب اموال المساعدات. وعلى رغم أن الولاياتالمتحدة بذلت، في الاعوام الاخيرة، أكثر من 100 مليون دولار على تدريب قوات جنوب السودان المسلحة، يحتاج ارساء مؤسسة جيش نظامي الى جهود تستمر عقداً أو عقدين من الزمن. وقوات جنوب السودان هي في مثابة ميليشيا. ويرى بعض المراقبين أن القوات هذه هي أكثر الجماعات المسلحة فوضى. وهي تفتقر الى عقيدة جامعة وإدارة حكيمة منظمة. ويخشى عاملون في قطاع الإغاثة إطاحة جهودهم حين ترتخي قبضة الضغوط الديبلوماسية. ويتساءلون عن جدوى بناء الدولة ومؤسساتها، اذا اندلعت الحرب. ولكن أغلب الظن ألا تتخلى الولاياتالمتحدة عن جنوب السودان. * مراسل، عن"نيوزويك"الاميركية، 4 / 10 / 2010، إعداد م. ن.