تشير الروائيّة الفنلندنيّة لينا لاندر، المولودة في مدينة توركو (1955)، إلى خطورة التجارب التي تتمّ تحت ستار البحث العلميّ والتربويّ، وإلى المخاطر الجسيمة التي تتربّص بأولئك الذين لا يردعهم رادع في تجاربهم. تنذر، عبر استعراض الخواتيم والمصائر، إلى حتميّة العقاب الطبيعيّ جرّاء الجرائم التي ترتكب باسم العلم والتربية. وذلك في روايتها «بيت الفراشات السوداء» (ترجمة مارية الهلالي، قَدْمُس، دمشق)، عبر استعراض وقائع وتفاصيل حياة أطفال سجناء في مدرسة داخليّة. تستهلّ لينا لاندر روايتَها بمحضر تحقيق للشرطة يتضمّن التحقيق في حالة وفاة عاملة في مدرسة تكون بمثابة إصلاحيّة للأطفال، في جزيرة نائية. يتبع التحقيق تقرير طبّي يفصّل الحالة وملابساتها، من دون أن يجزم بسبب مباشر للوفاة، ومن دون أن يلغي احتمال تعرّض المُتوفّاة لعنف خارجيّ. تحدّد الروائيّة عام 1969 بؤرة زمنيّة لانطلاق أحداث روايتها، ومع محضر التحقيق وتقرير الطبيب الشرعيّ، يتراءى للقارئ أنّه في صدد قراءة رواية بوليسيّة تبحث في ملابسات الوفاة، وتنبش في الخلفيّات، وتروم كشف الحقائق والخفايا، لكنّ ذلك لا يحتلّ الحيّز الأبرز من الاهتمام، إذ تغوص الكاتبة في عوالم بعيدة من عالم الجريمة والبوليس، لتعود إليها بصيغة مُلطّفة، وبطريقة مُوارَبة، لأنّها تبدأ من النهاية، تمارس التفافاً زمنيّاً، لتكون وفاة توني كوسكينن شرارة الأحداث والحلقة الوسطى في سلسلة من المواقف والمفارقات. إثر مناقشة تدور بين الشخصيّة المحوريّة يوهاني يوهانسون ومدير إحدى الشركات، الذي يودّ تعيين يوهاني محلّه لإدارة الشركة، يستعيد يوهاني أحداث ماضٍ لم تفارقه أبداً، يسترجع أيّام كان طفلاً صغيراً في المدرسة الإصلاحيّة التي كان يديرها هاريولا الملقّب بصَبؤوت، وكانت تلك المدرسة في جزيرة معزولة، تحوي عدداً من التلاميذ المُرسلين أيضاً لإصلاح سلوكيّاتهم وتهيئتهم للحياة العمليّة، كما يعيش فيها صبؤوت مع أسرته المكوّنة من زوجته إيريني وبناته الخمس. يتذكّر يوهاني طريقة انتزاعه غير اللائقة من حضن والديه، بناءً على وشاية كاذبة من جدّته لأمّه، ما تسبّب بأذى كبير للعائلة، وأدّى إلى تفتيتها وانهيارها اللاحق، إذ وجد والداه، إيرك وميري، نفسيهما بلا أبناء، بعد أن أخذت السلطات منهما ابنيهما يوهاني وصاولي، بحجّة عدم كفاءتهما لرعاية الأطفال، وبعد تدبير من الجدّة المهووسة، وتواطؤ من بعض الجيران. صاولي كان صغيراً بما لا يسمح له الالتحاق بمدرسة داخليّة، فأرسل إلى مكان ادّعت السلطات أنّه آمن له، في حين أُرسِل يوهاني إلى مدرسة صبؤوت ليتلقّى الإصلاح والرعاية المناسبين، في المدرسة التي كانت سجناً. تجتاحه اللحظات الأولى لدخوله الإصلاحيّة، يستعيد بأسى عنف المدير والأطفال تجاهه، وهو بجسمه الضئيل وغربته القاسية، يستعيد الغربة التي عاشها هناك، والوحشة التي ظلّت ملازمة له، ولا سيّما أنّه تعرّض لمحاولات قتل، كادت تودي به، على أيدي الأطفال الشرسين في المدرسة، وتحديداً من جانب الطفل المشاكس سيوبلوم الملقّب بالآلة، ما دفع المدير إلى تعيين الفتى الكبير الحجم إلكا سالمي الذي كان يكبرهم عمراً أيضاً. وذلك قبل أن يحظى يوهاني بصداقة وتقدير جميع الأطفال، نظراً لذكائه في التعامل والتواصل معهم، وكانت تسترعي انتباهه واهتمامه دوماً بنات المدير، كان يقتفي أثر إحداهنّ، يراقبها، يترقّب ذهابها وإيابها واختلاءَها بنفسها على الشاطئ، وقد تجرّأ في إحدى المرّات وتقرّب منها ولامس جسدها برضى وقبول منها، بعد إقناعه لها بذلك، لتفاجئهما زوجة المدير وتوبّخ الفتى وتعنّفه. تسبّبت تلك الحادثة بإحراجات كثيرة له وللبنت، وحفرت عميقاً في روحيهما. تشكّل زيارة والد يوهاني للمدرسة مُنعطفاً في حياة الطفل، لأنّ والده يكون أحد الباحثين في تجارب كيميائيّة تنشد نجاحات كبرى، وتزعم تغيير الطرق البدائيّة في استخراج بعض الموادّ، أو تطعيم أخرى، لتعود بفوائد جمّة. تتغيّر بعد ذلك معاملة المدير معه، يغدو الطفل الأقرب إليه، يشاركه اهتماماته الزراعيّة والحيوانيّة، يشترك معه في التجارب التي ينبّه والده المدير إليها، والتي تدغدغ رغبات المدير البادية في تحقيق إنجازات لافتة، وأرباح ومكاسب ماديّة ومعنويّة، لأنّه كان حريصاً على أن يخرّج الأطفال في مدرسته أصحّاء أقوياء أذكياء، مهيّئين لخوض غمار الحياة بنجاح وتفوّق. يجمع المدير صبؤوت المراجع العلميّة حول كيفيّة استغلال دود القزّ، لاستخراج الحرير والإفادة منها في التجارة ومضاعفة الأرباح، وتكييفها وفق طبيعة الجزيرة التي يعيش فيها، ما كان سيشكّل له النجاح الباهر، ويدرّ عليه الأرباح، علاوة على متعة الاكتشاف والإبداع. يتّخذ صبؤوت يوهاني مساعداً له، مستفيداً من ذكائه اللمّاح، وسرعة بديهته وتلقّفه للمعلومة، ومحفّزاً إيّاه على تحقيق رغبة والده في استكمال طريقه العلميّ. وبالفعل احتلّت تلك الرغبة معظم أوقات المدير ويوهاني، تمّت تهيئة الظروف القياسيّة لإنجاح التجربة، لكنّ ما كان يتخلّلها من أحداث غير طبيعيّة تسبّب في تحريف التجربة عن مسارها وتغيّر شروطها، لتخرج النتائج كارثيّة وغير متوقّعة. إذ تطوّرت الديدان إلى فراشات سوداء، وكان ذلك إنذاراً من أنّ هناك عقاباً لهم على أفعال شنيعة ترتكب في الخفاء، ولم يكن للمدير أيّ علم بما كان يقترف، لكنّ يوهاني كان يعلم بعضاً ممّا يجري، ويتكتّم عليه، لأنّه كان قد اكتشف علاقة الفتى إلكا سالمي مع إيريني زوجة المدير، حيث كانا يتطارحان الغرام في الخمّ، على مقربة من مواطن الفراشات، وكانت الخيانة العاملَ غير المرئيّ الذي تسبّب في تشوّه الفراشات. تختار الروائيّة لشخصيّاتها مصائرَ سوداء لا تقلّ سواداً عن تلك المخلوقات الشوهاء، التي كانت عقاباً للمتلاعبين بقوانين الطبيعة، ينتهي سالمي في سجن بعد أن يقتل توني التي اكتشفت علاقته مع إيريني، تنتهي إيريني إلى الجنون، يُسجن المدير في مُنعزَل، لأنّه لا يفتأ يكرّر هلوساته حول تجارب علميّة وطبيعيّة واكتشافات واجبة، يبقى يوهاني عقيماً، لا يفلح في الإنجاب من ابنة المدير التي يتزوّجها بعد أن يدفعها للطلاق، يحاول أن ينتقم من ماضيه، من دون أن يفلح في ذلك، ويذوب الأطفال الباقون في بحر الواقع. أمّا والدا يوهاني فينتهي بهما المطاف مقتولين في حادث سيّارة، يخلّف له والده بعض الأوراق والمذكّرات الشخصيّة، ورسائل تحمل بعض التفسيرات حول المجريات التي غيّرت مسار حياته وأسرته. الفراشات التي يفترض بها أن تشير إلى البشارة والبهجة أنّى تحلّ، تتحوّل إلى مصدر رعب وإقلاق في الرواية. ولا تنحصر الفراشات بتلك التي تحوّلت إلى تشوّهات، بل تشمل الأطفال الذين تشوّهوا في حمى تلك الإصلاحيّة التي كان يفترض بها أن تعالجهم وتهيّئهم تهيئة سويّة للمراحل اللاحقة، لكنّ الظروف غير الطبيعيّة والأساليب غير التربويّة، أدّت إلى إنتاج أطفال مشوّهين نفسيّاً، ولم يكتفِ التشويه بالسجناء الذين محيت خصوصيّاتهم وشخصيّاتهم فقط، بل امتدّت وتشعّبت لتطاول زوجة المدير وبناته الخمس، ذلك أنّهن كنّ سجناء أيضاً، ومحكومات بشروط قاسية وعزلة بائسة، كما كانت الزوجة تعاني الإهمال وفتور العلاقة بينها وبين زوجها، فوجدت نفسها مدفوعة لحضن فتى سجين لا يتجاوز نصف عمرها، تعوّض معه إهمال زوجها لها، تكتشف معه جسدها ووجودها الملغى من جانب زوجها. تقدّم لاندر العبَر والحكَم، تقدّم الجريمة بالموازاة مع العقاب، تؤكّد، عبر سردها ومعالجاتها، أنّ ليس بالضرورة أن يتساوى الفعل وردّ الفعل، بل قد يكون الردّ أكثر إيذاء من الفعل نفسه، تبحث في الطبيعة البشريّة المتّسمة بالضعف، القدريّ منه والمُكتسَب، تبحث في الآثام والذنوب والأخلاق والحبّ وبعض أشكاله، تتشابك لديها الأزمنة والأمكنة والشخصيّات والنماذج، تطرح الإضرار البيئيّ المتلازم مع التدمير الإنسانيّ. تصوّر كيفيّة انهيار منظومة القيم والأخلاق والجماليّات وتداعيها المدمّر جرّاء الإهمال والتلاعب والجشع، لتكون النتيجة مخلوقات مشوّهة سوداء في قلب العتمة التي تتسرّب إلى الأرواح والأجسام معاً.