لا يمكن الحديث عن تحالفات سياسية جديدة في العراق من دون النظر بتمعن الى الشكل النهائي لقانون الانتخابات العامة التي ما زال توقيت إجراؤها مجهولاً، وسط تسريبات عن توافقات يتم إنضاجها خلف الكواليس لتأجيلها بين 6 شهور الى عام. وليس بعيداً من طروحات التأجيل فإن اختيار قانون محدد للانتخابات العامة يصطدم هو الآخر بصعوبة الوصول الى توافقات حول شكل التحالفات السياسية المقبلة في ضوء إرباك عام وغموض في الخيارات السياسية ضاعفته الانتخابات المحلية الأخيرة بدلاً من ان تحسمه. والأصل ان المشهد السياسي العراقي في حاجة الى حسم صنفين من الخيارات المعقدة والمتداخلة تدعم بمجملها فرضية التأجيل، أحدهما يخص خيارات قانون الانتخابات والآخر يتعلق في شكل التحالفات السياسية المقبلة. أنظمة انتخابية بعد تجربتين انتخابيتين واسعتين كان من المفترض ألا يكون مستقبل العراق السياسي معلقاً على تساؤل"وفق أي نظام ستجرى الانتخابات؟"، فليس من المنطقي ان يتم تغيير القانون الانتخابي في كل مناسبة انتخابية. الشهور المقبلة ستشهد نقاشاً سياسياً محتدماً حول المفاهيم الانتخابية عبر أربعة خيارات مطروحة للنقاش تحمل كل منها حزمة من المعطيات المتناقضة: أولاً: نظام القائمة المغلقة والعراق دائرة انتخابية واحدة: يطرح هذا النظام شكلاً اكثر وضوحاً للتحالفات السياسية الكبيرة، ومن جهة فإن هذا النظام سيسمح بإنتاج تحالفات سياسية مبنية على القناعات المشتركة حول القضايا الأساسية في العراق، لكنه من جهة أخرى سيمرر عشرات الأسماء المرشحة غير الكفوءة مثلما سيسمح بقوة بتدعيم نظام الممثليات الطائفية والعرقية سنة وشيعة وأكراد ناهيك عن تدعيم النظام لآلية المحاصصة المتبعة اليوم. ثانياً: نظام القائمة المغلقة ودوائر انتخابية متعددة: ويستخدم هذا النظام آلية التمثيل النسبي الإداري سواء للوحدات الإدارية أو للسكان. وبما انه يسمح بتمثيل اكثر وضوحاً للمحافظات العراقية فإنه سيكرس بقوة إنتاج التحالفات على أسس مناطقية اكثر منها وطنية ويفتح الطريق للتحالفات المبنية على أسس طائفية تعيد صيغ إشكاليات التمثيل للطوائف التي تشكل جوهر المشكلة السياسية العراقية. ثالثاً: نظام القائمة المفتوحة والعراق دائرة انتخابية واحدة: هذا النظام غير قادر على إنتاج تحالفات كبيرة بالاستناد الى قاعدة الأسس والتوافقات العامة لكنه في الوقت نفسه لا يستطيع تجاوز مشكلة الأصوات المهدورة التي تدعم بالضرورة القوائم والكتل الكبيرة وهي المشكلة التي بدت شديدة الوضوح خلال انتخابات المحافظات السابقة. رابعاً: نظام القائمة المفتوحة ودوائر انتخابية متعددة: وهذا النظام سيحول التجربة الانتخابية المقبلة الى نسخة من انتخابات المحافظات السابقة وسيجعل المنافسة مقتصرة على خصوم داخل كل محافظة عراقية فيما ستتراجع الى الخلف القضايا الرئيسة الأخرى لكنه سيساعد على إنتاج تحالفات مناطقية متغيرة من محافظة الى أخرى. تلك الآليات الانتخابية الأربع لا يمكن بأية حال استطلاع موقف الكتل السياسية العراقية منها، لأن دعم الكتلة لأي منها مشروط بحصيلة حواراتها السياسية لعقد تحالفات أو الترشيح في قوائم منفردة. والعقدة السياسية التي ستظهر خلال الفترة المقبلة هي استخدام نظام الانتخابات ليس لتسهيل نجاح التحالفات السياسية بل أيضاً للمساومة على إفشال مخططات لتحالفات أخرى. وفيما تدور نقاشات جانبية اليوم حول شكل النظام الذي يرجح نيله قبول غالبية الكتل السياسية، يدور نقاش آخر حول شكل التحالفات المقبلة لكن جميع تلك النقاشات تكاد تدور في حلقة مفرغة لعدم قدرتها على إنتاج توافق سياسي واضح. التحالفات والردة السياسية! إذا كان من تساؤل يؤطر مستقبل العراق السياسي فإنه لا بد يتعلق بمصير نظام المحاصصة الطائفية والعرقية الذي يقاوم للاستمرار والبقاء على رغم كل التحركات السياسية العلنية التي تحاول إسباغ وجه وطني عابر للطوائف على واقعها السياسي تماشياً مع مزاج شعبي يبدو انه تقدم في نضوجه بخطوات على الوسط السياسي العراقي في هذا الجانب. نتائج انتخابات المحافظات الأخيرة لم تكن عاملاً مساعداً على إحداث انتقالة كبيرة في مجال القفز من مفهوم"الممثليات الطائفية"الى مفهوم"الممثليات الوطنية". بل ان تلك التجربة الانتخابية أفرزت رسائل مراوغة وغير مستوفية حول مفهوم الوطنية الجديد في حال كان الانتماء الى الدولة ام الانتماء الى الحكومة. التحركات السياسية الحالية لا تخلو من مراوغة هي الأخرى، والتسريبات تشير الى تفاهمات تبدو للوهلة الأولى وكأنها حراك باتجاهات عدة للكتل السياسية الواضحة في المشهد العراقي. فعلى نطاق كتلة الائتلاف الشيعية يقول المطلعون على التفاصيل ان ضغوطاً إيرانية كبيرة تسلط على جميع أطراف الكتلة سواء الموجودين داخلها في شكل رمزي أو المنسحبين في مراحل مختلفة. وإيران بدعمها الإبقاء على الروح في كتلة شيعية خالصة انما تحاول الحفاظ على النمط المثالي لحكم العراق المعبر عن مصالحها منذ بداية عام 2004 عبر نظام التقسيم الثلاثي شيعة وسنة وأكراد. الاحتفاظ بالشكل التقليدي للائتلاف الشيعي سيعني بالضرورة الاحتفاظ بالتركيبات الأخرى، وهو سيضمن في صورة اكثر تركيزاً تكريس التقسيم التصنيفي في الهرمية السياسية الموجودة حالياً لجهة تحويل ارتباط المنصب السياسي بطائفة معينة من نتيجة انتخابية الى حق للطائفة والقومية. وتكريس الشكل الحالي لحكم العراق متوافق الى حد بعيد أيضاً مع الرغبة الأميركية التي تعمل على نقلة استراتيجية في الخريطة العراقية من المسؤولية العسكرية الباهضة الى المسؤولية السياسية الأقل كلفة والأكثر فائدة. المفارقة ان الحديث عن كتل سياسية عابرة للطوائف لا يقل مراوغة هو الآخر فهو يفترض في بعض غاياته إيجاد تركيبة في شكل خارجي مختلط وبجوهر معتمد على المحاصصة الطائفية، وتقسيم الحكم على أسس لا تختلف عما هي عليه اليوم. الإشارة الى المثال السابق ترتبط بتحركات سياسية لا تقتصر على جبهة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي الذي أعلن في شكل واضح اخيراً عن رغبته في تشكيل كتلة سياسية لا تعتمد التصنيف الطائفي والعرقي بل تتجاوزها الى المعسكر الآخر الموجود في الحكومة ويشكل عملياً جبهة معارضة داخلها ومكون من جبهة التوافق السنية والتحالف الكردستاني والمجلس الإسلامي الأعلى. وفي هذا الوقت يبدو ان المشاورات السياسية للكتل العراقية تحاول ان تتمظهر وفق نموذج التمثيل الوطني في الانتخابات المقبلة، وذلك لسبب من ثلاثة: الأول: إن الأطراف السياسية التي تروج للتكتلات العابرة للطوائف تحاول الالتفاف على فكرة المواطنة التي أصبحت مطلباً شعبياً عبر إنتاج نموذج مموه للمحاصصة الطائفية والعرقية يستعرض كتلاً كبيرة تحت غطاء وطني تتفرع الى ممثليات عرقية وطائفية تحتفظ بجذوة المحاصصة. الثاني: ان الكتل السياسية الرئيسة ستختار تمثيلاً آخر يعتمد على ضم شخصيات من ممثليات طائفية وعرقية أخرى اليها من دون أن يكون لهذا الضم أي دور موضوعي سوى انه مكمل للإطار الشكلي للكتلة. والثالث: ان الكتل السياسية العراقية ستسعى الى إعادة هيكلة أولوياتها بما يشمل إلغاء أولوية التمثيل الطائفي والعرقي لمصلحة إنتاج برامج سياسية قابلة لاجتذاب المتوافقين على الأطر الفكرية والسياسية للكتلة. سيناريوات مفتوحة وحيث ان الخيار الأخير ليس وارداً بالمرة، إلا في تمنيات بعض السياسيين المعلنة أو غير المعلنة والشهور المقبلة ستطرح سيناريوات مفتوحة. فمن جهة أمام رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي الذي انتصر في انتخابات المحافظات عبر طرح اسم"قائمة دولة القانون"بديلاً عن"الائتلاف"، خيار تشكيل كتلة سياسية تحمل الاسم ذاته بعد ضم شخصيات وأحزاب سنية مثل"صحوة الأنبار"و"قائمة الحدباء"في الموصل ومرشحين في ديالى وصلاح الدين إضافة الى شخصيات وعشائر كردية كانت أبدت استعداداً للدخول قبل شهور في مشروع مجالس الإسناد. وهذا الخيار صعب التطبيق عملياً لأن المالكي يدرك مسبقاً اختلاف قياسات الانتخابات العامة عن انتخابات المحافظات مثلما يدرك ان تجربة فوزه الأخير حملت قائمته مسؤولية إنجازات سريعة وملموسة في المحافظات التي فازت فيها، اصبح من الصعب تحقيقها في ظل الانكماش في الموازنة العراقية لعام 2009، ما يجعل الكتلة برمتها في مهب متغيرات سريعة في المزاج الشعبي. ولجوء المالكي الى هذا الخيار سيجعله في مرمى نيران طهران التي تتسرب معلومات انها قد أبدت انزعاجاً لخطوة رئيس الحكومة إقالة مستشار الأمن القومي موفق الربيعي الذي كان يخوض حرباً مفتوحة منذ شهور مع منظمة"مجاهدين خلق"الإيرانية المعارضة. كما انه المالكي الذي نجح بإخماد حركة دعائية كبيرة ضده على خلفية"جس النبض"الذي أطلقه في قضية التحاور مع"البعثيين"يعلم أيضاً ان الفترة الانتخابية ستضعه في مواجهة حملات لا تقل خطورة على مستقبله السياسي. ومن جهة ثانية، فإن رئيس الحكومة العراقية أمامه خيار الاستجابة الى دعوات وضغوط لإحياء كتلة الائتلاف الشيعية بالآلية التي أنشأت فيها أو بإضافة شخصيات وأحزاب جديدة اليها أو إعادة منسحبين بينهم"تيار الصدر"و"حزب الفضيلة"وأيضاً التيار السياسي العائد في الانتخابات المقبلة بقوة احمد الجلبي. على الجانب الآخر يطلق المجلس الإسلامي الأعلى الذي يتزعمه عبدالعزيز الحكيم خيار إعادة تشكيل كتلة الائتلاف الشيعية، كآلية لاستكشاف المواقف اكثر من كونها خياراً استراتيجياً للمجلس. فالدعوة المبكرة ستتيح للمجلس الأعلى هامشاً اكبر للحراك السياسي خصوصاً انه يعلم مسبقاً ان الاشكالات التي تعيق عودة إنتاج الائتلاف تتعلق هذه المرة بنظريات الوزن السياسي والقيادة. وحيث ان جبهة المجلس ومنظمة"بدر"30 مقعداً في الائتلاف تعادل عملياً جبهة"الدعوة"المركز و تنظيم العراق و المستقلين فإن هذه الجبهة الأخيرة لن تقبل في نطاق المساومات على عدد المقاعد بمنح المجلس النسبة التي نالها في انتخابات نهاية عام 2005 كما انها سترفض منح المجلس حق رئاسة البرلمان وستسعى في المقابل الى استقطاب تيار الصدر و"الفضيلة". المعلومات المؤكدة تشير الى ان المجلس الأعلى وهو يفتح باب إعادة بناء الائتلاف الشيعي فتح في شكل متزامن وغير معلن حوارات مع اطراف اخرى كحل بديل للتحالف ووسيلة ضغط أيضاً في حال وصلت الأمور الى القطيعة. وتتلاقى تلك الحوارات السياسية مع تجليات سياسية للأكراد والحزب الإسلامي للأغراض نفسها، وان كان خيار تشكيل كتلة من المجلس والأكراد والحزب الإسلامي قد تنظم اليها قائمة العراقية بعيد عملياً لكنه ليس مستحيلاً في النهاية. التحالف الكردستاني الذي يضم الحزبين الكرديين الرئيسيين سيؤجل إقرار خيارات الانتخابات العامة الى ما بعد حسم الانتخابات البرلمانية داخل إقليم كردستان، خصوصاً بعد بروز تحديات سياسية داخلية تطرح أمام الحزبين هامش منافسة ممثلاً بأحزاب وتكتلات جديدة بينها تيار نيوشروان مصطفى المنشق عن حزب الاتحاد الوطني الكردستاني. خيار خروج بعض الأطراف الكردية من عباءة الحزبين لمصلحة تحالفات خاصة في الانتخابات العراقية العامة مطروح على طاولة النقاش الكردي وان كان سياسيون أكراد يؤكدون انه ضعيف. والثابت في الرؤية الكردية هو الاحتفاظ بنسق التحالف الحالي بانتظار إقرار قانون الانتخابات العامة الذي يفضله الأكراد على شكل قائمة انتخابية مغلقة والعراق دائرة انتخابية واحدة. وهامش المناورة الكردي سيكون بالدرجة الأساس على قضايا تتعلق بالاحتفاظ بمنصب رئيس الجمهورية ودعم الاتجاه المناهض للمركزية السياسية والعمل على منع تكرار تجربة السنوات الأربع الماضية بخصوص كركوك وصلاحيات الإقليم، ما يطرح فرضية التحالف مع أطراف غير كردية للنقاش في الشهور المقبلة. أما"الحزب الإسلامي"فلديه بدوره خيارات متعددة لا تقف عند حدود تكريس نظام التمثيل الطائفي عبر التحالف مع ممثليات مذهبية وعرقية، وانما الترشح ضمن قائمة سنية تضم مجالس الصحوة وأحزاب سنية في نطاق إعادة إحياء جبهة التوافق كرد فعل على إعادة إحياء كتلة الائتلاف الشيعية. خيارات"السنة"لا تخرج هي الأخرى عن إرادة جبهة إقليمية ودولية تحاول فرملة طموحات إيران في العراق عبر الإبقاء على توازن طائفي يمنع ابتلاع الجبهة المعارضة لدور إيراني استثنائي في هذا البلد. والخيارات ذاتها مطروحة امام كتل اخرى مثل العراقية وصالح المطلك والفضيلة والصدر التي حاولت انتاج تحالف واسع لكنها لم تنجح بسبب تباعد الاسس المفاهيمية في ما بينها وهي اما ستدخل الانتخابات منفردة أو متحالفة مع اي تركيبة تنتج عن قراءات الكتل الكبيرة الثلاث. العمل على توضيح تحالفات الانتخابات العراقية المقبلة ستكون المهمة الاصعب والاكثر خطورة التي سيمر بها العراق في ضوء عدم وجود ارادة سياسية صلبة لتجاوز محنة المحاصصة الطائفية. والغموض في خيارات القوى وتوجهاتها قد يطرح من جانب فرضية وجود حراك سياسي إيجابي وطبيعي لإعادة تشكيل الحياة السياسية العراقية على أسس اكثر رصانة، لكنه من جانب آخر يؤكد افتقار اغلب الأطراف السياسية العراقية الى رؤية سياسية وفكرية ثابتة. المسالة الأكثر تعقيداً هي تحول المشهد برمته الى ساحة مساومات سياسية جديدة في نطاق صفقات"المكاسب مقابل الشعارات"التي أضعفت النسيج السياسي العراقي على امتداد السنوات الماضية. ويبدو ان العراق بات اليوم أحوج من أي وقت مضى الى مطالبة جميع القوى السياسية بطرح أسس وبرامج وأهداف تحالفاتها المقبلة بعد تخليصها من الجمل الخطابية المملوءة بالمعاني ذات الاستخدام المزدوج.