واجه إقدام بعض احزاب السلطة في العراق على تشكيل تحالف سياسي جديد من داخل الحكومة، انتقادات لاذعة داخلياً وخارجياً لجهة اهمال الطبيعة المركبة للأزمة العراقية، وللدوران في الحلقة المفرغة ذاتها، ما يدفع الأمور إلى خيارات التقسيم بدل استثمار فرصة تاريخية ربما لن تتكرر مستقبلاً للشروع في اعادة تقويم اخطاء الماضي بجرأة عبر سياسة وطنية جامعة. وعلى رغم عدم توافر صدقية واقعية لاتهامات حاولت تفسير ما يجري بتحالف شيعي - كردي يقصي السنّة العرب من المعادلة الحكومية, الا ان هذا الطرح في صيغته الطائفية لا يقل خطورة عن ترويج احزاب السلطة لما تعتبره"جبهة للمعتدلين السياسيين"كمقاربة انتقائية لتحديد معاني"الاعتدال"وپ"التطرف"في بيئة سياسية عراقية غير صالحة لمثل هذا التصنيف. ولم تكن عطلة نهاية الاسبوع الماضي مصيرية في تحديد شكل المستقبل في العراق, على رغم الترويج الاعلامي المبالغ به لتوقيع اربعة من كبار السياسيين في العراق اتفاقاً يرجح انه يندرج ضمن تكتيكات الصراع غير المحسومة. وكان لافتاً ان توقيت اعلان اتفاق الزعماء الاربعة رئيس الجمهورية العراقي وزعيم الاتحاد الوطني الكردستاني جلال الطالباني وزعيم اقليم كردستان والحزب الديموقراطي الكردستاني مسعود بارزاني، إضافة الى رئيس الوزراء العراقي وزعيم حزب الدعوة نوري المالكي ونائب رئيس الجمهورية وممثل المجلس الاسلامي الأعلى عادل عبدالمهدي جاء متزامناً مع مجموعة استحقاقات لا تصب عموماً في مصلحة المشروع السياسي الحالي. فالحكومة العراقية التي تشكلت علناً تحت عنوان"الوحدة الوطنية"واتهمت بأنها"حكومة محاصصة طائفية"تجردت من الوصفين بانسحاب نحو 17 من وزارئها وتجردها من التمثيل الشكلي لإحدى الطوائف العراقية. وهذه الحكومة تجد نفسها عاجزة اليوم عن تحقيق شروط اميركية اعتبرها البعض تعجيزية وتهدف الى إلقاء تبعة الفشل السياسي والعسكري الاميركي على الطبقة السياسية العراقية، ما سيعكسه تقرير كروكر ? بتريوس المرتقب في منتصف ايلول سبتمبر المقبل. كما ان الحكومة التي قادها المالكي تتهم من جهة ثانية بعدم تحقيق تقدم ملموس في علاقاتها الاقليمية والعربية مقابل انخراطها في البحث عن معادلة لا يمكن تحقيقها عملياً تضمن الولاء لإيران والادارة الاميركية في وقت واحد. واعلان التوافق الرباعي يستبق بيوم واحد مباحثات جرى التمهيد لها مطولاً بين قادة الكتل السياسية الرئيسة لبحث مستقبل العملية السياسية، ما لا يترك عملياً للقوى الداعية الى تغيير جذري في هياكل الحكومة وتشكيلتها وفلسفتها ممثلة حكومياً بنائب الرئيس السني طارق الهاشمي أي دور امام جبهة اتفقت على الإبقاء على الوضع السياسي الحالي. لكن الاطراف السياسية الموقعة على الاتفاق عمدت خلال الاسابيع الماضية الى محاولة اسقطاب الهاشمي والحزب الاسلامي الذي يتزعمه الى التحالف الرباعي، لتحقيق مشروعية طائفية تمكّن التحالف من قيادة البلاد وتمرير المشروعات المطلوبة اميركياً, وما زالت تتعهد ضم الاسلامي على رغم رفضه. الاشارات الاكثر وضوحاً ربما قرئت من خلال تزامن التطور السياسي الاخير في العراق مع التوجه الاميركي لتوسيع دور الاممالمتحدة في هذا البلد، ما اعتبره سياسيون اكراد في جلسات داخلية محاولة اميركية للتخلي عن تعهدات منحت للأكراد في شأن الوضع السياسي والاقتصادي لإقليم كردستان وضم كركوك الغنية بالنفط. وتجدر الاشارة هنا الى ان توسيع دور الاممالمتحدة في العراق سيعني بالضرورة تدويل القضايا موضع الخلاف وفي مقدمها قضية كركوك، وهو ما تطالب به جبهات سياسية واسعة في العراق ويشكل جوهر التحركات التركية الأخيرة لتهديد اقليم كردستان. وفي صلب الازمة تنبري أيضاً قضية فيديرالية الوسط والجنوب التي يتصدر المجلس الأعلى بقيادة عبدالعزيز الحكيم واجهة المطالبين بتكريسها, والتوازنات المرجوة بين القوى الاربع بين تمرير قضية كركوك لمصلحة المطالب الكردية في مقابل دفع مشروع فيديرالية الجنوب لمصلحة المجلس الاعلى وتيارات في حزب الدعوة. وبعيداً من كل ذلك، لا يكتسب التحالف الجديد دافعاً لبث الروح في العملية السياسية الحالية لأنه، وبحسب وصف منتقدين ينضم اليهم هذه المرة السفير الاميركي في العراق ريان كروكر، يعبر عن"تحالف بين متحالفين في الاساس"، في إشارة الى ان القوى الاربع دخلت منذ فترة معارضتها للنظام العراقي السابق في تحالف دائم، ثم طورت تحالفها بعد الغزو ليعبر عن تحالف بين كتلة الائتلاف الشيعية وكتلة التحالف الكردية لتشكيل حكومتي ابراهيم الجعفري ونوري المالكي قبل ان تتراجع لتحقيق تحالف بين اربعة احزاب من ذلك التحالف. لكن مصادر عليمة قالت ان واشنطن تملك امتياز فكرة"تحالف المعتدلين"والذي يعرف"الاعتدال"بالقرب او البعد من الافكار الاميركية حول شكل الحل في العراق وهو ما يشمل قبول الحلول الموجعة ومنها"التقسيم". لكن المطلعين ايضاً يؤكدون ان السفارة الاميركية لم تشجع توقيت اعلان التحالف قبل اقناع السنّة بالانضمام اليه، ولم تشجع جهود المالكي الذي بدأ البحث عن بدلاء للتوافق ليس في حكومته فقط وانما في المدى البعيد لتحقيق ثلاثية الحكم في هذه البلاد. وعلى رغم تحديد بيان الاتفاق الرباعي جملة اهداف وآليات عمل تضمن بحسب رئيس الوزراء دفع الحكومة العراقية الى الأمام وتسعى، بحسب مطلعين، الى تشكيل حكومة اغلبية تمرر مشاريع قوانين تسعى الولاياتالمتحدة الى اقرارها سريعاً، ابرزها قانون النفط والغاز, الا ان الخريطة السياسية العراقية حتى تلك التي افرزتها الانتخابات لا تضمن تحقيق مثل هذه الاهداف، وهو ما يبرر تمسك الاحزاب الاربعة، بإجراء تعديل من داخل الحكومة لتجنب الدخول في متاهة سياسية جديدة لتشكيل حكومة لا يضمن الدستور العراقي الحالي خروجها الى النور عبر المجموعة الرباعية. وتمتلك الاحزاب الاربعة مجتمعة نحو 98 مقعداً برلمانياً من اصل 275، ما يجعل امكان حصول مرشحها لرئاسة الحكومة على اغلبية برلمانية صعباً، فيما تجد ان الاحتفاظ بالشرعية البرلمانية السابقة لرئيس الوزراء الحالي نوري المالكي ودعم اجراءات تغيير فيها, اكثر منطقية في هذا المرحلة، في انتظار استقطاب المزيد من القوى خارجها، ابرزها تيار الصدر 30 مقعداً والمستقلون في الائتلاف الشيعي 30 مقعداً وحزب الفضيلة 15 مقعداً والاتحاد الاسلامي الكردستاني 5 مقاعد، إضافة الى نحو ستة اعضاء من قائمة رئيس الوزراء العراقي السابق اياد علاوي. والواضح ان حمى الاستقطابات السياسية ستندلع في العراق خلال الايام المقبلة لتشكيل جبهة سياسية جديدة من القوى المعارضة، وأبرزها اليوم جبهة التوافق السنية 44 مقعداً والقائمة العراقية 24 مقعداً وجبهة الحوار التي يتزعمها السياسي العلماني صالح المطلك 11 مقعداً، إضافة الى حزب الفضيلة 15 مقعداً وقائمة المصالحة والتحرير 3 مقاعد ونحو مقعد آخر لمستقل او ممثل لأقليات، ليصل عدد الجبهة المناوئة الى نحو 98 مقعداً. وسيسعى التكتل الجديد في حال تشكله الى استقطاب قوى منها تيار الصدر والتحالف الاسلامي الكردستاني وربما مستقلون من الائتلاف الشيعي. والصراع في نسخته المكررة من الانتخابات السابقة يتجاوز اطار البرلمان العراقي الى القوى والتيارات الدينية والسياسية والعشائرية خارجه. وربما لا يدخل في باب المصادفة ان تشهد الاشهر الثلاثة الاخيرة تشكيل او اعادة تشكيل تجمعات سياسية وعشائرية على خلفية المأزق الحكومي الحالي، وتزايد وتيرة الاصوات المطالبة بإجراء انتخابات مبكرة تختلف الآراء حول امكان إحداثها تغييراً جوهرياً في واقع الاستقطاب الطائفي الذي غلف الانتخابات السابقة. ومن باب الالتصاق بواقع الحال في العراق لا يجدر بالتأكيد مطالبة الطبقة السياسية العراقية الحالية بالتخلي عن دفاعها المحموم عن مفهوم التمثيل الطائفي والمذهبي والعرقي الذي وصلت بفضله الى السلطة ويطرحه السياسيون العراقيون في نقاشاتهم الداخلية علناً وفي تصريحاتهم العلنية ضمناً باعتباره شكل الحكم الذي توافق العراقيون عليه عبر صناديق الاقتراع وليس الثورات الدموية. لكن واقع الحال يشير ايضاً الى ان اطلاق اسم التحالف"الشيعي - الكردي"على الاتفاق الاخير مجاف للحقائق ايضاً، في ظل غياب ممثلين آخرين عن الشيعة والاكراد داخل البرلمان وخارجه. ولا يبدو ان لتنازع المصطلحات وزناً فعلياً في مجمل الازمة التي يمر بها العراق وطناً وشعباً, وتاريخاً ومستقبلاً, ما يفتح المجال لطروحات تفترض ان هذه المرحلة تعد مفصلية وتاريخية لتحديد ما سيؤول اليه وضع العراق السياسي. والخيارات لا تستثني بالطبع"التقسيم"الذي بات اكثر جاذبية ليس في اوساط بعض السياسيين العراقيين المحكومين بفكرة الطائفة والقومية, بل داخل الاروقة السياسية والبحثية الاميركية التي نشطت للترويج لفكرة التقسيم كشرٍ لا بد منه لضمان انسحاب اميركي آمن من دون التخلي عن انشاء تبعيات سياسية موثقة بعقود ومعاهدات مع"أمراء"الدول الجديدة. والقضية في الاصل تجاوزت افراط الذهنية العربية بتكريس نظرية المؤامرة الى الانفتاح عملياً على خيار التقسيم استبقته السياسات الاميركية بتشكيل تحالفات جديدة تشمل هذه المرة رجال عشائر ومسلحين سنّة طامحين الى ادوار سياسية واقتصادية في المرحلة المقبلة. إزاء كل ذلك تكثر الأسئلة عن الاستحقاق الوطني العراقي المهمل كما يبدو في دوامة الصراع الطائفي المستعر سياسياً وعسكرياً؟ فالمراقبون لواقع العجز والتخبط والشلل الحكومي العراقي يحملون ابتداء الأسس التي بنيت عليها العملية السياسية في العراق المسؤولية, قبل ان يحملوا وفي شكل شخصي وجماعي الطبقة السياسية العراقية مسؤولية تاريخية تتأسس على مواقفها وخياراتها الدولة في العراق. البعض تساءل عما اذا كان من حق العراقيين استثمار حال التقهقر في المشروع التوسعي الاميركي عموماً وفي الحملة الاميركية على العراق للشروع في تخطي حاجز المذهبية السياسية الذي شرعنت له قوانين الاحتلال؟ وربما يفرط البعض في الامنيات حين يطالب رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ممثلاً لنفسه او للجماعة السياسية والاجتماعية التي ينطلق منها, بتحمل مسؤولية مضافة في تحديد خيار المستقبل، خصوصاً ان حملة الانسحابات الاخيرة من حكومته يمكن ان تكون عملياً نقطة انطلاق لتصحيح اخطاء الماضي، على رغم المحاذير والعوائق التي تقف بقوة امام خيارات التصحيح. والمالكي الذي يحتفظ بالشرعية البرلمانية لقيادة الحكومة لحين تحقيق إجماع على تنحيته, يمتلك ورقة قلب المعادلة لمصلحة المشروع الوطني العراقي بطرح حكومة عابرة للطوائف تتجاوز المحاصصة للتصويت في البرلمان. وعلى رغم ان هذه الدعوة قد تصنف ضمن خطوات الانتحار السياسي وتنتهي الى النتيجة ذاتها التي انتهى اليها رئيس الوزراء الاسبق اياد علاوي, لكن السياسة في الغالب تحتاج الى صاحب القرار الشجاع اكثر من حاجتها الى جيش من المستشارين المتنفعين. والمالكي الذي يمتلك الكرة في ملعبه اليوم يجد نفسه في مرمى نيران قوى سياسية داخلية واقليمية من جهة, وأمام استحقاق اميركي غير قابل للتحقيق من جهة اخرى، ربما سيكتشف سريعاً ان حكومة اكفياء واختصاصيين غير خاضعة لمعايير الطوائف والمذاهب والقوميات قادرة على اتخاذ القرار وتنفيذه، لا تحتاج في الواقع الى اجماع سياسيين بقدر تحديدها خط سير للراغبين بتجاوز المرحلة يصبح معه الممتنعون متهمين بتكريس المحاصصة. وبقدر"ثورية"مثل هذا الافتراض وحاجته الى بيئة مناسبة ودعم دولي وإقليمي، فإن اهماله من ضمن الخيارات المتاحة لن يترك فرصاً كثيرة للخروج من المأزق العراقي الذي يتجه الى المزيد من التعقيد ببقاء الاميركيين او برحيلهم. ولعل هرولة القوى السياسية الممسكة بالسلطة الى اعلان تحالف يضمن بقاء الحكومة والسعي الى اختيار بدلاء للقوى المنسحبة بحسب توصيفها الطائفي من اوساط العشائر، يعكس تخبطاً وتمسكاً غير موفق بقوانين أمراء الطوائف التي اثبتت فشلها عملياً بعد تجارب حكومات الاحتلال الاربع. بل ان قضية تمثيل الطائفة مطروحة اليوم للاختبار على الارض ومهددة بقلب الموازين داخل الصومعة المذهبية والقومية, فالتيارات الشيعية التي تمتلك تمثيلاً شعبياً مثل تيار الصدر تجد ان اصرار حزبي الدعوة والمجلس الاعلى على تمثيلهما الطائفة الشيعية غير واقعي، فيما ترى قوى اخرى غير ممثلة في الحكومة ان القوى المنخرطة في الائتلاف الشيعي لا تمثلهما واقعاً، وصراع التمثيل هذا يتضح في جنوبالعراق في شكل مواجهات دامية مؤهلة لتتحول الى حرب داخلية تمتلك مبرراتها لدى جميع الاطراف. كما ان اعتراض العشائر السنية والجماعات المسلحة على احقية تمثيل"جبهة التوافق"للطائفة السنية يعكس هو الآخر خيار التمثيل المذهبي غير المحسوم في العراق. ابعد من ذلك، فإن جاذبية مصطلح"الحقوق القومية"الذي يستمد الحزبان الكرديان مساحتهما الشعبية منه يجد من يعترض عليه في الاوساط الكردية, وربما تعكس الحساسية المفرطة التي تعامل بها الاكراد مع حضور زعماء قبائل كردية معارضة للحزبين اجتماعات لكتل سياسية خارج العراق دليلاً مضافاً إلى التحولات في القناعات التي تحكم آلية التمثيل في اقليم كردستان. المعادلة تزداد تعقيداً حين نقر ان اشكالية التمثيل الطائفي والعرقي هذه لا تعني تبلور وعي شعبي يمكن ان يتجاوز الطائفة الى الوطن, بل ان مثل هذه الحقيقة ليس تهمة لوصم من خرج لينتخب زعيمه الديني او القبلي وما زال مستعداً لهذا الخيار. فالاتفاق موجود على ان الدول تتحمل مسؤولية تنمية مفهوم المواطنة وهو ما عجزت عنه كما يبدو مؤسسات الدولة العراقية الحديثة على غرار معظم دول المنطقة.