الفساد كلمة كريهة مقيتة بغيضة، تعافها النفس السوية ويكرهها الوجدان السليم، وتقشعر منها الجلود، فهي كلمة حبلى بكل السيئات، ولا تلد إلا المضرات والمهلكات، يجمع الأفراد والجماعات والدول على تجريمها والتشنيع بها، ولكن رغم كل ذلك نجد ان العالم في عصرنا هذا يزداد فساداً، كل يوم، بل كل ساعة، حتى يخيل لك أن العالم أصبح ملفوفاً بغلالة بل بغمامة كريهة من الفساد، ويخيل إليك أنك تتنفس هواء بل دخاناً كثيفاً مثقلاً بالفساد، يكاد يخنقك ويكتم أنفاسك. إن المجتمعات تغوص متعمقة كل يوم في مستنقع الفساد الآسن. انه يتغلغل تغلغل الحية الرقطاء، بين الأفراد والمجتمعات بل وحتى الدول، والغريب أننا - أفرادنا ومسؤولينا وإعلامنا - نتحدث عن الفساد كأنه مخلوق خرافي أتى من عالم آخر، أو كأنه كائن هلامي أتى من الفضاء، بينما حقيقة الأمر أن الفساد هو: رغبات وأنانيات وأفعال ونيات بعضنا السيئة، وصدق الله القائل: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ الروم الآية 41. ذلك أن الأنانية البغيضة والنرجسية الكريهة والطمع والجشع وقساوة القلب، وحب الدنيا، والشغف بالملذات وحب الشهوات، وجفاف النفس من العواطف الإنسانية النبيلة، وخلوها من المشاعر السامية الرقيقة، هي التي تؤدي إلى الفساد، وظلم العباد للعباد، من دون وازع من دين، أو رادع من ضمير. إننا لو أردنا أن نحلل الفساد إلى عناصره الأولية كما يفعل الرياضيون، فإننا نستطيع ان نجعل كل صفة خبيثة دنيئة سافلة من مكوناته، فالرشوة والاختلاس والأنانية والظلم والقهر والاعتداء والتعدي واكل المال الحرام والحسد والحقد والسرقة والجور واستغلال النفوذ، كلها من مكونات الفساد، ولكنها من صفات المفسدين. والعلاقة بين الصفات الدنيئة والرديئة والفساد علاقة تبادلية فهي مكونه الرئيسي ولكنه يربيها ويكبرها ويحركها، فإذا كانت الأنانية هي احدى مكونات الفساد فإنها به تكبر وتتضخم، وإذا كان الظلم من أعمدة الفساد فإنه بالفساد يستشري، وتلك الصفات السيئة مثل العلاقة بين ترسين يدوران على بعضهما ويحرك كل منهما الآخر. لو طلب مني أن أصف حال العالم اليوم في جملة واحدة فستكون تلك الجملة الفساد يستشري، ولن أكون جانبت الصواب أو ابتعدت عن الحقيقة، فها هو الفساد يستشري في الأفراد والجماعات والدول، وهو يزداد كل يوم ظهوراً وسفوراً، وان اتخذ أسماء غير أسمائه وألقاباً غير ألقابه. إن الفساد لم يعد حكراً على طبقة من دون طبقة، او طائفة من دون طائفة، ولكنه عم وانتشر، فهو ينتشر بين عليّة القوم وخاصتهم كما ينتشر بين الطبقة الوسطى من الموظفين، وان كان في زماننا هذا أكثر انتشاراً بين من يسمون أنفسهم عليّة القوم. وإذا كان قد قل نسبياً بين ما يسمون الطبقات الدنيا من الموظفين فليس ذلك من طهر أو تعفف أو تسام عن الدنايا، ولكن لأنهم في الغالب لا يملكون أدواته، أو حماية أنفسهم من تبعاته. إن المترقب بعين مفتوحة وقلب يقظ لحال العالم لا بد أن يسأل نفسه: إلى أي درك يأخذ هذا الفساد العالم؟ إلى أي قاع سحيق يهوي العالم بهذا الفساد؟ ما مصير عالم، الطُهارُ الأتقياء فيه مقهورون مكسورون مضطهدون، والفساق المفسدون فيه هم أصحاب السطوة والحظوة والكلمة الماضية والتكريم. الفساد خلل في الدين، وانحطاط في الأخلاق، تحركه الأنانية، ويقوده حب الذات، يدوس في طريقه لتحقيق أهدافه كل المثل الأخلاقية، والأعراف الإنسانية، والمشاعر النبيلة، فالمفسد لا يراعي - وهو يسعى لتحقيق أهدافه الساقطة ورغباته السافلة - ديناً ولا عرفاً، ولا يأبه لوشائج قربى، او صلات رحم، فان نفسه قد تضخمت حتى ما عاد يرى أحداً، وقلبه قد تحجر حتى ما عاد يرق لأحد أو يعطف على أحد، أو يخاف شيئاً. ان الفساد ظلم صريح لا شك في ذلك فهو لا يتم إلا بأكل أموال الناس، وهضم حقوقهم، وتعطيل مصالحهم، وكل ذلك ظلم بين وجور واضح، والظلم ظلمات يوم القيامة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا كان الفساد قد انتشر في كل بقاع العالم، فقد كنا نتوقع أن تكون أرض العالم العربي جزيرة من الطهر والعفاف، وسط ذلك المحيط المتلاطم من الفساد. كنا نظن أن يظل أديمها مساحة من النقاء لأنها أرض الإسلام، دين النقاء والعدل والعفة والطهر، والمواساة والإيثار والمشاعر الإنسانية الرقيقة، ولكننا للأسف نجد أن المسلمين انغمسوا في ما انغمس فيه الآخرون، بل إن بلاد العالم العربي تعتبر من أكثر البلاد التي ينتشر فيها الفساد وان كثيراً منها قد صنفته مؤسسات تهتم بالشفافية والفساد كأسوأ بلاد العالم من حيث انتشار الفساد، هذا ما أكدته أيضاً منظمة الشفافية الدولية التي صنفت الدول العربية في تقريرها لعام 2008، كدول تحتل المراتب الأولى في الفساد، ومع هذا لم نسمع عن تقديم أي مسؤول كبير في القطاعين العام والخاص للمحاكمة بتهمة الفساد الإداري أو المالي، لأن القوانين التي تجرم الرشوة مثلاً لا تساوي أكثر من الحبر الذي كتبت به، وكما يقولون من أمن العقوبة أساء الأدب. لقد انتشر الفساد في عالمنا العربي حتى أوشك أن يكون شريكاً للناس في كل أمور حياتهم، وإذا كنا نجد للمفسدين في غير بلاد الإسلام عذراً، فكيف نجد له عذراً في بلاد الإسلام؟ فديننا يحرّم الفساد تحريماً بيناً، ويمنع الظلم منعاً قاطعاً، وسلفنا الصالح سادوا العالم بطهرهم وعفافهم وعدلهم ، وكان مجتمعهم - انطلاقاً من تمسكهم بدينهم - مجتمعاً فاضلاً طاهراً معافى. مجتمع كان المسلمون فيه في تماسكهم وتوادهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، وكان المسلم أخا ً للمسلم لا يظلمه ولا يسلمه، أما اليوم فإن المفسدين - وهم مسلمون أو هكذا يجب أن يكونوا - يأكلون لحم إخوانهم ويشربون دماءهم، بل ويدّقون عظامهم ويسنونها سناً، لا يرحمون مسكيناً ولا يعذرون فقيراً، ولا يتجاوزون عن صاحب حاجة. إن الفساد قد انتشر وعمّ في عالمنا العربي، حتى جرى في الطرقات كمياه المواخير، وطفح وارتفع حتى غطى مباني كانت عالية وصروحاً كانت سامية وفاحت رائحته - ولا نقول حتى أزكمت الأنوف، بل نقول حتى اعتادتها الأنوف، فما عادت تشمئز منها كثير من النفوس أو تعافها. وإذا كان الفساد مصيبة كبيرة، فإن الرضا به والاستسلام له مصيبة أكبر. وهذا للأسف ما يحدث في عالمنا العربي، فقد ضربت جذور الفساد عميقاً في الأرض، وامتدت شجرته عالية فوقها، وامتدت وشائجه إلى كل مؤسسة ومصلحة ووزارة، حتى لا تستطيع أن تقضي مصلحة إلا برشوة أو محسوبية أو بطريقة غير شرعية، فضاع حق المتعففين وغير القادرين، وظهرت طبقات من الفاسدين والمفسدين، اغتنت فئات على حساب الفقراء ومصالح البلاد، وأصبحت للمفسدين حظوة وسطوة، وحموا أنفسهم من المساءلة بالحصانة أو بالدخول في حرم الحكومة، وما كانت في الإسلام في يوم من الأيام حصانة لأحد، وقد وقف أمير المؤمنين علي رضي الله عنه مع يهودي أمام القاضي في درع اختصما في ملكيته. صورة سوداء قاتمة بل مخيفة هذه الصورة التي نراها في عالمنا العربي عن الفساد، صورة تدعو للقنوط من القضاء عليه وإصلاح الحال، فبالفساد ضاعت الحقوق، واستشرى الظلم، واستحلت الرشوة، وتقلد الفاسدون والمفسدون المناصب وهضمت حقوق الفقراء، ونهبت الأموال العامة، وضعف نسيج الترابط الاجتماعي، وانتشرت بين الناس الإحن والأحقاد، وجارت الأحكام ومالت بها الأهواء والمصالح، حتى إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. إن الحال لو استمرت على هذا المنوال فسيكون المآل أسوأ مآل، فإن الفساد سيكون أكثر انتشاراً، وستقوى أياديه ويصبح أكثر قدرة على إنفاذ أمره في كل ساحة وعلى كل أحد، حتى لا تكون الحياة إلا بمجاراته أو الخضوع له، وحينئذٍ يكون باطن الأرض خيراً من ظاهرها. وفي النهاية نقول إنه رغم الصورة القاتمة التي قدمناها فيجب ألا ييأس الناس من الأمل في الإصلاح، فإن اليأس يؤدي إلى الاستسلام، وإنك إذا استكبرت عدوك هبته وقعدت عن محاربته فتحقق له النصر من دون قتال. * رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدّراسات الاستراتيجية [email protected] نشر في العدد: 16801 ت.م: 04-04-2009 ص: 17 ط: الرياض